- اسم الكاتب: جمال سلطان
- التصنيف:دراسات في الدعوة
يمثل فقدان الإحساس بالزمن وقيمته وأثره في التحولات السياسية والاجتماعية والعقدية أحد أبرز مشكلات الحركة الإسلامية المعاصرة، وخاصة في مصر، لقد كانت السمة الغالبة على تصرفات أجيال الحركة الإسلامية هي سمة العجلة والتسرع واستعجال الثمرة والضجر من طول الطريق وعدم الصبر على عوائقه وتصور إمكانية القفز على معطيات الواقع لاختصار الطريق، ولعل ذلك كان السبب الأهم في اندفاع فصائل من الحركة الإسلامية إلى العنف المسلح في الحالة المصرية، دون نظر دقيق وراشد وعاقل في معطيات الواقع وفي آفاق التجربة وحساباتها، بل إن الغريب أنه على الرغم من أن بدهيات العمل العام تعطي معنى أن الحرب هي مجرد آلية من آليات السياسة، فإننا وجدنا بعض فصائل الحركة الإسلامية تغامر بدخول مواجهات مسلحة دون أن تكون لها - من حيث الأصل - أية خبرات سياسية، بل ودون أن يكون لها تصور سياسي، بل إنها - وما زالت حتى الآن - تنظر بتوجس إلى السياسة ومفرداتها، وما زال قطاع كبير منها يفكر بعقلية التنظيم السري ذي الطابع العسكري، وأحيانا يكون بعقلية التنظيم السري على الرغم من الطابع الفكري المجرد للتنظيم والبعيد كل البعد عن العنف وعن السياسة معا.
سياسة النفس الطويل
إن طبيعة المعركة التاريخية التي تخوضها الحركة الإسلامية لوقف مسيرة التغريب في ديار الإسلام، والعمل على إصلاح البلاد والعباد، وتأسيس دولة العدل والإيمان والحرية، وإحياء دين الحق في النفوس وفي الواقع، وإعادة شريعة الله حاكمة لعباد الله، كما كانت منذ بعثة النبي {صلى الله عليه وسلم} وحتى فجر التاريخ الحديث عندما وقع الشرخ الكبير بفعل التغريب والغزو والاستبداد - هذه المعركة التاريخية هي - في صلبها وجوهرها - معركة النفس الطويل، والبناء الصعب، والمعاناة العاقلة الذكية، المعاناة التي ترصد الواقع ومتغيراته وتدرس مفاتيحه ومداخل الإصلاح فيه وتضع خططها الصبورة للنفاذ إلى هذا الواقع والعمل على إصلاحه بهدوء وروية مستوعبة موجات التحدي لرسالتها بأشكالها كافة، تحديات الاستبداد والجهل والقمع بما في ذلك القمع الإعلامي، ومصالح دولية معاكسة ومتباينة مع المصلحة الإسلامية، وتوازنات محلية ودولية، وليست تلك المعاناة التي تتصور أن أهم إنجازات المسلم المعاصر أن يقضي جزءا من عمره في السجون والمعتقلات، لقد غلب على مشاعر أبناء الحركة الإسلامية في مرحلتها الجديدة نزوع عاطفي كبير نحو الخلاص الذاتي، والرغبة في التطهر، دون نظر إلى أهمية الخلاص الجماعي والعام للأمة بكاملها، وهذا النوع الثاني من الإحساس هو الذي يفتق الذهن للإبداع الحركي، وهو الذي يدفع الطاقات الإسلامية إلى احترام الواقع والتفاعل معه ومن ثم قيادته، وهو الذي يجعل المسلم أكثر حرصا على وقته وعلى عمره وعلى شبابه وعلى جهوده من أن تضيع هدرا، لأنه يعي أنه مطالب بتحقيق النصر في موقعة تاريخية، وليس فقط مجرد التضحية دون حسابات جدوى كاملة ودقيقة لأبعاد هذه التضحية.
إنه ليس مطالبا فقط بتخليص نفسه وتطهيرها، بل أيضا بتخليص أمته من آفاتها الكبرى، وتحريرها من العبودية لغير الله، ومثل هذه الأمانة الضخمة تحتاج إلى وعي وسلوك وأفق مختلف عن مجرد الشعور العاطفي الصادق بالرغبة في التضحية والتطهر دون نظر إلى الغاية أو الأفق أو الدور، وفي تقديري أن هذه خطوة أولى وحيوية لإصلاح مسار الحركة الإسلامية وتأسيس وجهتها المستقبلية على أسس جديدة أكثر وعيا ورشدا وأكثر قدرة على الالتحام بالواقع، وأكثر فاعلية على التغيير والإصلاح .
عمل خطر
إن العمل في الإصلاح العام، والعمل المتقاطع مع السياسة - بشكل عام فيما يسمى بالعالم الثالث - شديد الخطورة والتعقيد، ومنطقه مختلف تماما عن منطق السياسة وحساباتها في الدول التي قطعت شوطا كبيرا في الإصلاح السياسي وأصبحت لديها قاعدة مؤسسية راسخة تحقق توازن القوى وتضبط السلوك السياسي في مجتمعاتها، فالعمل السياسي في العالم الثالث أشبه بالخوض في حقول ألغام، بما يعني بذل جهد مضاعف للتعامل بحكمة مع هذا الواقع، وبدلا من أن يحدث ذلك كانت الحركة الإسلامية أقل تحوطا في سلوكها الإصلاحي والحركي، وأقل قدرة على فهم موجات السياسة في بلادنا، وأقل قدرة على (تفكيك) الألغام المبثوثة في مسيرتها نحو الإصلاح، بل كانت أجيالها تنتشي باقتحام حقول الألغام حيث يتم تدمير أجيال من الحركة بدون طائل عملي حقيقي تجنيه الأمة، وكان منطق الخلاص الذاتي والفردي هو القائد، وروح التضحية الفردية، بينما كان المطلوب هو منطق البحث عن سبل النصر وشروطه، وروح الجماعة، وحسابات الزمن، ومصالح الأمة الكبرى، وأفق المستقبل، لم يكن المطلوب هو أن أقتحم اللغم لكي أفجره وينفجر في، بل كان المطلوب هو أن أضع خريطة علمية لحقل الألغام، ومعرفة خصوصيات هذه الألغام، وأدرس كيفية تفكيك هذه الألغام، بحيث أنزع منها قدراتها على التدمير، وقد يمكن الإفادة من هذه الألغام ذاتها في مرحلة تاريخية معينة بشكل إيجابي لا يضر بمسيرة الحركة الإسلامية نحو الإصلاح، كل هذا لم يحدث، لأن الأفق السياسي كان غائبا، بل الأفق المستقبلي الأساسي كان غير موجود وغير موجه للحركة الإسلامية، ومن ثم كان الحديث عن (استراتيجية) مستقبلية - تحكم مراحل عملها، وتوجه بوصلة فعلها وتفكيرها -نوعا من الترف غير المطروح أساسا للنقاش الجاد .
عاقبة وخيمة
وكانت غلبة الروح التنظيمية في العمل الحركي على حساب التجديد الفكري وخيمة العواقب، حيث تم إعلاء شأن الانضباط التنظيمي على مهمة بناء الشخصية المستقلة والبصيرة والناقدة، وتمت مصادرة حق الفرد في النقاش والاختلاف وإبداء الرأي، ما دامت (قيادة التنظيم) رأت رأيها، وتمت عملية (عسكرة) الحركة الإسلامية بتأسيسها على الطاعة العمياء والصارمة على حساب الطاعة الفاحصة والبصيرة، وكان من الطبيعي أن تموت ملكات الإبداع والتجديد الفكري والحركي والسياسي في ظل هذه الأجواء، الأمر الذي أدى إلى خسارة الحركة الإسلامية - بفصائلها كافة - لجهود أصحاب الفكر والباحثين عن التجديد، وأصبحت (الجماعات) عامل طرد للمميزين فكريا، ولذلك يعز أن تجد في حركة إسلامية رموزا فكرية مؤثرة، وتحولت الحركات - من ثم - إلى تنظيمات بلا قدرات فكرية خلاقة، وكان هذا من العوامل التي أدت إلى جمود الوعي الحركي والسياسي والمستقبلي .
الحاجة إلى بعث جديد
إن الحركة الإسلامية في حاجة إلى بعث روح جديدة، وفكر جديد، وأخلاقيات جديدة، وعلى أكثر من صعيد، وصحيح أن هناك فروقات معينة بين كل فصيل وآخر، إلا أن جوهر الداء ستجده عند الجميع بدرجات مختلفة، بحكم أن المناخ العام الذي نعيشه والخبرات التي أسسنا عليها حركيتنا - هو من المشترك العام بيننا، وأملنا أن تكون الانتكاسات المتتالية التي مرت بها الحركة، والهشاشة العجيبة في محصلة جهدها في المجتمع على مدار أجيال طويلة - أملنا أن يكون هذا كله دافعا وحافزا يضطرها لفتح أبوابها أمام هذه الروح الجديدة، لاسيما ونحن نتحدث عن تيار لا ينقص أفراده الإخلاص والصدق وجذوة الإيمان .