تدوين السنة النبوية (2-2)

4 2449

كاد القرن الأول الهجري أن ينتهي ، ولم يصدر أحد من الخلفاء أمره بجمع الحديث وتدوينه ، بل تركوه موكولا إلى حفظ العلماء والرواة وضبطهم ، وبعض الكتابات الفردية ، وكان مرور مثل هذا الزمن الطويل كفيلا بتركيز القرآن وتثبيته في نفوس الناس ، فقد أصبح يتلوه القاصي والداني ، ويعرفه الخاص والعام ، ولا يختلف فيه أحد أو يشك في شيء من آياته ، كما كان مرور هذا الزمن الطويل أيضا كفيلا بأن يذهب بكثير من حملة الحديث من الصحابة والتابعين في الحروب والفتوحات ، وأن يتفرقوا في الأمصار ، مما هيأ لأهل الأهواء والبدع - الذين ظهروا في هذه الفترة - أن يزيدوا في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يدخلوا فيه ما ليس منه مما يؤيد بدعتهم ويلبي انحرافهم ، كما أن انتشار الإسلام وتوسع الدولة الإسلامية جعل العرب يختلطون بغيرهم من الأعاجم في البلدان المختلفة مما نتج عنه قلة الضبط في نقل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبب ضعف ملكة الحفظ عند الناس .

وفي العام التاسع والتسعين للهجرة تولى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خلافة المسلمين ، فنظر إلى الأحوال والظروف التي تمر بها الأمة ، فرأى أن عليه البدء بكتابة الحديث وتدوينه حفظا له من الضياع والتحريف ، حيث أن المانع الذي كان يمنع تدوين الحديث قد زال ، ومصلحة المسلمين باتت تستدعي جمع الحديث وتدوينه .

فكتب إلى عماله وولاته يأمرهم بذلك ، حيث أرسل إلى أبي بكر ابن حزم ـ عامله وقاضيه على المدينة ـ قائلا له : " انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبه ، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء " ، وطلب منه أن يكتب ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وكتب إلى علماء المسلمين في الأمصار المختلفة " انظروا إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجمعوه " ، وكان ممن كتب إليهم الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أحد الأئمة الأعلام ، وعالم أهل الحجاز والشام المتوفى سنة (124هـ) ، حيث استجاب لطلب عمر بن عبد العزيز فجمع حديث أهل المدينة وقدمه له ، فبعث عمر إلى كل أرض دفترا من دفاتره ، وكانت هذه هي المحاولة الأولى لجمع الحديث وتدوينه بشمول واستقصاء ، وكان تدوين الإمام الزهري للسنة عبارة عن جمع ما سمعه من أحاديث الصحابة من غير تبويب على أبواب العلم ، وربما كان مختلطا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ، وهذا ما تقتضيه طبيعة البداءة في كل أمر جديد ، وبذلك مهد الإمام الزهري الطريق لمن أعقبه من العلماء والمصنفين ، ووضع حجر الأساس في تدوين السنة في كتب خاصة .

ثم نشطت حركة التدوين بعد ذلك ، وأخذت في التطور والازدهار ، وتعاون الأئمة والعلماء في مختلف الأمصار ، فكتب ابن جريج بمكة ، وكتب مالك وابن اسحاق بالمدينة ، وكتب سعيد بن أبي عروبة والربيع بن صبيح وحماد بن سلمة بالبصرة ، وكتب سفيان الثوري بالكوفة ، وكتب أبو عمرو الأوزاعي بالشام ، ، وكتب عبد الله بن المبارك بخراسان ، وكتب معمر باليمن ، وغيرهم من الأئمة ، وكانت طريقتهم في التدوين هي جمع أحاديث كل باب من أبواب العلم على حدة ، ثم ضم هذه الأبواب بعضها إلى بعض في مصنف واحد ، مع ذكر أقوال الصحابة والتابعين ، ولذلك حملت المصنفات الأولى في هذا الزمن عناوين مثل " مصنف " و " موطأ " و " جامع " .

ثم جاء القرن الثالث فحدث طور آخر من أطوار تدوين السنة تجلى في إفراد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتصنيف دون غيره من أقوال الصحابة والتابعين ، فألفت المسانيد التي جمعت أحاديث كل صحابي على حدة ، من غير مراعاة لوحدة الموضوع ، كمسند الإمام أحمد ، ومسند إسحاق بن راهويه ، ومسند عثمان بن أبي شيبة وغيرها من المسانيد ، ولم تقتصر هذه المسانيد على جمع الحديث الصحيح بل احتوت على الصحيح وغيره مما جعل الإفادة منها والوقوف على أحاديث مسألة معينة من الصعوبة بمكان إلا على أئمة هذا الشأن ، خصوصا وأنها لم ترتب على أبواب الفقه ، مما حدا بإمام المحدثين في عصره محمد بن إسماعيل البخاري أن ينحو بالتأليف منحى جديدا اقتصر فيه على الحديث الصحيح فحسب دون ما عداه ، فألف كتابه الجامع الصحيح المشهور بـ" صحيح البخاري " ، وجرى على منواله معاصره وتلميذه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري فألف صحيحه المشهور بـ " صحيح مسلم" ، وقد رتبا صحيحيهما على أبواب الفقه تسهيلا على العلماء والفقهاء عند الرجوع إليهما لمعرفة حكم معين ، فكان لهذين الإمامين الفضل بعد الله عز وجل في تمهيد الطريق أمام طالب الحديث ليصل إلى الحديث الصحيح بأيسر الطرق .

وقد تابعهما في التأليف على أبواب الفقه أئمة كثيرون سواء ممن عاصرهم أو ممن تأخر عنهم ، فألفت بعدهما السنن الأربعة المشهورة وهي سنن أبي داود ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجه ، إلا أن هؤلاء الأئمة لم يلتزموا الصحة كما التزمها الإمامان البخاري ومسلم ، فوجد في هذه المؤلفات الصحيح وغيره ، وإن كان الصحيح هو الغالب .

وقد اعتبر العلماء القرن الثالث الهجري أزهى عصور السنة وأسعدها بالجمع والتدوين ، ففيه دونت الكتب الستة التي اعتمدتها الأمة فيما بعد ، وفيه ظهر أئمة الحديث وجهابذته ، وفيه نشطت رحلة العلماء في طلب الحديث ، ولذلك جعل كثير من أهل العلم هذا القرن الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين من نقاد الحديث .

وبانتهاء هذا القرن كاد أن ينتهي عصر الجمع والابتكار في التأليف ، فقد اقتصر دور العلماء في القرون التالية على الاختصار والتهذيب والترتيب ، والاستدراك والتعقيب ، وانصب اهتمامهم على الكتب المدونة ، وقلت بينهم الرواية الشفهية .

ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن تدوين الحديث النبوي قد مر بمراحل منتظمة ، وأطوار متلاحقة ، حققت حفظه ، وصانته من العبث والضياع ، وكان لجمع الحديث وتدوينه أعظم الأثر في تسهيل الطريق للاجتهاد والاستنباط ، وبهذا نعلم مقدار الجهد العظيم الذي بذله الأئمة في جمع السنة وتبويبها ، حيث تركوا لنا تراثا عظيما في عشرات المصنفات والدواوين ، حتى أصبحت هذه الأمة تمتلك أغنى تراث عرفته البشرية ، فجزى الله أئمة الإسلام عنا خير الجزاء .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة