الحداثة من منظور إسلامي

0 1440
  • اسم الكاتب: إسلام ويب

  • التصنيف:مذاهب

  إذا كان البلاء الذي قد فتح على الأمة أيام الدولة العباسية، كان نتيجة ترجمة غير واعية للتراث الفلسفي الإغريقي والهندي والفارسي، فإن واقع الحال في عصرنا " عصر الاستغراب الثقافي " لا يختلف كثيرا إن لم يكن أشد خطورة . ذلك أن علماء الكلام من معتزلة وفلاسفة ومن كان على شاكلتهم حاولوا الموافقة بين الإسلام كدين وبين الوافد الجديد من العلوم الفلسفية، وهي موافقة على ظلمها إلا أنها أهون مما فعله المستغربون حين استوردوا ضلالات الفكر الغربي وروجوها بين الأمة، ولم يكتفوا بذلك بل عارضوا ما خالف أفكارهم الوافدة، فهاجموا الإسلام وشككوا في أركانه وأسسه .

وليست الحداثة في عالمنا الإسلامي إلا نتيجة من نتائج هذا الاستغراب الفكري المحموم المصحوب بحالة من الاندهاش والإعجاب، الذي حجب الأبصار عن رؤية مساوئ الحداثة وعيوبها .

وقبل الحديث عن أفكار الحداثة في عالمنا الإسلامي، لابد أن ننبش عن جذورها الفكرية في منبتها الأصلي " الغرب "، لنعقد مقارنة الأفكار بالأفكار، ولنتعرف على الحداثة دون لف أو دوران، أو تحفظ ربما فرضه العرف ومراعاة الواقع والحال .

فالحداثة نبتة غربية خبيثة، وهي مذهب فكري لم يكن وليد لحظة أو مصادفة، وإنما مذهب أنتجته تحولات فكرية متعاقبة، فبعد سقوط الكنيسة من واقع الناس وقلوبهم، نشأت في الغرب مذاهب إلحادية تحاول أن تفسر الكون والإنسان والحياة تفسيرا ماديا بعيدا عن تفسير الدين وأطروحات الكنيسة، وكلما فشل مذهب انتقل الناس إلى غيره . فمن تلك المذاهب التي ظهرت مبكرا الكلاسيكية التي ألهت العقل والطبيعة، ولم يمر على الكلاسيكية إلا وقت يسير حتى أدرك الناس أن العقل بمفرده عاجز عن تفسير الكون والإنسان، فجاء من يدعو إلى الاعتماد على الشعور والخيال في تفسير الحياة والإنسان، والإجابة على الأسئلة المصيرية حولهما، وهذا المذهب يسمى الرومانسية وهو مذهب يؤله ( الطبيعة والشعور )، ثم انتقل الناس من الرومانسية - بعد ظهور فشلها- إلى "الواقعية" كردة فعل عكسية على المغالاة في اعتماد الشعور، ومن الواقعية انتقل الناس إلى اللامعقول وهو مذهب حول الإنسان إلى حيوان لا هم له إلا إرواء غرائزه وشهواته، وأما الحياة في نظر أصحاب هذا المذهب فهي حقيرة تافهة لا غاية منها، وقد أسلمت تلك المذاهب والاتجاهات القياد أخيرا إلى الحداثة التي تعني الثورة على الماضي بكل ما فيه، والدعوة إلى التجديد والتغيير المستمر، وتأليه العقل، وألا حقيقة إلا ما كان منتجا عقليا، فالحداثة ليست إلا مرحلة من مراحل التفكير الغربي وليست نهايته، وهذا التحول ليس تحولا مبرمجا ومقصودا، وإنما هو دليل على مدى التخبط والحيرة التي يعيشها الغرب، فمع غياب المرجعية الدينية الحقة لا يدري هؤلاء أي المذاهب هو الحق وأيها هو الباطل، وإذا دلهم فكرهم على صحة مذهب ما في عصر ما، لم يلبث الزمان إلا ويكشف لهم سوءات المذهب السابق فيبطلونه وينتقلون إلى غيره وهكذا دواليك .

ويمكن تلخيص ركائز تيار الحداثة الغربية - وفق رأي بعض الكتاب - في النقاط التالية:

1- الحداثة تعني سيادة العقل .
2- تتعارض الحداثة مع كل ما هو تقليدي، وهي تنفي كل الثقافات السابقة عليها.
3- الحداثة تعني التغيير المستمر، وهذا التغيير يؤدي إلى أزمات داخل المجتمعات التي تجد نفسها مضطرة إلى مراجعة القديم على أساس من العقلانية، والعقلانية هي التي تؤدي إلى الحداثة وليس العكس . وهذا ما حدث تاريخيا في أوروبا.
4- الحداثة تعني أن الحقائق تستمد قيمتها من كونها نتاجا للعقل البشري، وهي تعني حرية الاختيار للقيم والأساليب، وبالتالي تحل العلم محل الإله .

وكان الأمريكي "إدغار ألن بو" من رموز المدرسة الرمزية التي تمخضت عنها الحداثة في الجانب الأدبي على الأقل، وقد تأثر به كثير من الرموز التاريخية للحداثة مثل: "مالارميه" و"فاليرى وموباسان"، وقد كانت حياة إدغار حياة عربدة وسكر لا علاقة لها بالأخلاق والحق؛ فقد كانت حياته موزعة بين القمار والخمور، والفشل الدراسي والعلاقات الفاسدة، ومحاولة الانتحار بالأفيون، حتى قيل عنه عند موته في إحدى الصحف الأمريكية "ومما يبعث الأسى لموته، هو ـ قبل كل شيء ـ الاعتراف بأن الفن الأدبي قد فقد نجما من أسطع نجومه ولكن من أمعنهم في الضلال".

وعلى خطى إدغار سار تلميذه "بودلير" أستاذ الحداثيين، ممعنا في الضلال، وبعيدا عن الحق والأخلاق . وكان يعتبر عميد المدرسة الرمزية والتي تعد الخطوة الأولى للحداثة من الناحية الأدبية على الأقل، وإلا فهناك روافد أخرى ساهمت في تشكيل الحداثة . وقد نادى "بودلير" بالفوضى في الحس والفكر والأخلاق .

ومشى على آثار "بودلير" "رامبوا" وتبعه من بعده "مالارميه" و "بول فاليري"، ووصلت الحداثة في الغرب إلى شكلها النهائي على يدي الأمريكي اليهودي "عزرا باوند"، والإنجليزي "توماس إليوت"، وقد تأثرت بهم الموجات الأولى من الحداثيين العرب مثل : "السياب" و"نازك" و"البياتي" و"حاوي" و"أدونيس" وغيرهم، كما ذكر ذلك "إحسان عباس" في ( فن الشعر صفحة 72 ) وتعتبر قصيدة "الأرض الخراب" لإليوت هي معلقة الحداثيين العرب بما حوته من غموض ورمزية، حولت الأدب إلى كيان مغلق، تتبدى في ثناياه الرموز والأساطير، واللغة الركيكة العامية، إلى آخر ما نراه اليوم من مظاهر أدب الحداثيين .

وقد حاول الحداثيون العرب أن يجدوا في التاريخ العربي أسلافا لهم، ليكونوا جواز مرور لهم إلى عقول الأمة، فلم يجدوا إلا الفساق والزنادقة، فمن أبي نواس إلى أبي العلاء المعري فابن الراوندي والحلاج ، وقد تحدث "أدونيس" عن "أبي نواس" و"عمر بن أبي ربيعة"، وعن سبب إعجاب الحداثيين بشعرهما، فقال : " إن الانتهاك هو ما يجذبنا في شعرهما، والعلة في هذا الجذب أننا لا شعوريا نحارب كل ما يحول دون تفتح الإنسان، فالإنسان من هذه الزاوية ثوري بالفطرة، الإنسان حيوان ثوري". انظر "الثابت والمتحول" ج1 صفحة 216 " ( نقلا عن الحداثة للقرني بتصرف ) . وواضح من كلام أدونيس أن سر إعجاب الحداثيين بأمثال أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة هو تهتكهم وعدم مراعاتهم للأخلاق والأعراف .

ولعلك أخي القاريء قد وقفت معنا على معنى الحداثة، وتبين لك جذورها ومؤسسها، وإن كان لنا من وقفة مع هذا الفكر المنحل فهي وقفة تعجب واستغراب لمدى سخف عقول من نادى بالحداثة من العرب، وتقلد مذهب "بودلير" وتغنى بالأرض الخراب، ولم يكتف بذلك حتى تجرأ وطعن في الإسلام وشكك فيه، فهل لنا أن نسأل هذا الجاهل قائلين له ولمن وافقه : أي خير للأمة يوم أن تترك اتباع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وتتبع "إدغار" و"فودلير" رواد الفسق والعهر والفجور، كيف سيصبح حال البشرية إن هي آمنت بالحداثة واتخدتها منهج حياة ؟!

إن المنهج الهجومي الذي ينتهجه مروجو الحداثة في العالم العربي، ووقوف المسلم في موقف المدافع عن دينه وقيمه، ربما كان سببا في عدم معرفة كثير من المسلمين بحقيقة الحداثيين وما يحملونه من مباديء هدامة، لكن الأمر لا يحتاج سوى إلى قراءة سريعة لفكر هؤلاء من خلال كتاباتهم النثرية والشعرية حتى يعلم المسلم إلى أي طريق يسير هؤلاء، وإلى أي منهج يدعون، ولعل فيما قدمنا في هذا المقال من تعريف بهم، وما سنقدمه من توضيح لأشعارهم الطاعنة في أصول الدين وثوابته ما يكون معلما في التعريف بضلال هذه الطائفة وعظم خطرها .

ونختم مقالنا بالتنبيه على أن معرفة هذه المذاهب ودراسة أفكارها ورجالها تزيد الدين بريقا ، وتظهر علو كعبه ومنزلته، وأنه لا يقارن بأي من المذاهب البشرية والأفكار الأرضية إلا وعلا عليها، وأن دراسة تلك المذاهب تلفت الأنظار إلى مكامن الجمال في هذا الدين العظيم، الذي لا سعادة للبشرية إلا به، ومقارنة سريعة بين دين الله وهذه الأفكار الأرضية تظهر بما لا يدع مجالا للشك - عند المنصف - أحقية هذا الدين بالاتباع والاقتداء والإيمان به .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة