أسباب اختلاف القراء في القراءات القرآنية

2 2729

تعدد القراءات القرآنية أمر واقع أجمعت عليه الأمة سلفا وخلفا، وليس ثمة دليل لمن ينكر ذلك أو يستنكره؛ وإذ كان هذا واقعا لا يمكن نكرانه أو تجاهله فإن السؤال الوارد هنا: ما السبب الذي أوجب أن يختلف القراء في قراءة القرآن على قراءات عدة ومتعددة، وصل المتواتر منها إلى أكثر من سبع قراءات.

ومن المفيد والمهم هنا التذكير بداية، أن الاختلاف في القراءات القرآنية إنما كان فيما يحتمله خط المصحف ورسمه، سواء أكان الاختلاف في اللفظ دون المعنى، كقراءة قوله تعالى: {جذوة} بضم الجيم وكسرها وفتحها، أم كان الاختلاف في اللفظ والمعنى، كقراءة قوله تعالى: {ننشرها} و{ننشزها} وقوله تعالى: {يسيركم} و{ينشركم} وعلى هذا ينبغي أن يحمل الاختلاف في القراءات القرآنية ليس إلا.

بعد هذا التوضيح الذي نرى أنه مهم، نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم كان قد تعارف بينهم منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ترك الإنكار على من خالفت قراءته قراءة الآخر، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرهم على ذلك، ولو كان في الأمر شيء لبين لهم ذلك، أما وإنه لم يفعل فقد دل ذلك على أن الاختلاف في القراءة أمر جائز ومشروع، وله ما يسوغه.

وقد صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف) رواه النسائي ، وفي "الصحيحين" عنه صلى الله عليه وسلم أيضا، قوله: (أنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر) رواه البخاري ومسلم.

وقد ذكرنا في مقال سابق لنا، أن القول المعتمد عند أهل العلم في معنى هذا الحديث، أن القرآن نزل على سبع لغات من لغات العرب، وذلك توسيعا عليهم، ورحمة بهم، فكانوا يقرؤون مما تعلموا، دون أن ينكر أحد على أحد؛ بل عندما حدث إنكار لهذا، كما كان من أمر عمر رضي الله عنه مع هشام بن حكيم بين له صلى الله عليه وسلم أن ليس في ذلك ما يستنكر، وأقر كل واحد منهما على قراءته، والحديث في "صحيح البخاري".

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده رضي الله عنهم وجهوا الصحابة إلى البلدان ليعلموا الناس القرآن وأحكام دينهم، فعلم كل واحد منهم أهل البلاد التي أرسل إليها ما كان يقرأ به على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فاختلفت قراءة أهل تلك البلاد باختلاف قراءات الصحابة رضي الله عنهم.

والذي دلت عليه الآثار أن جمع عثمان رضي الله عنه للقرآن إنما كان نسخا له على حرف واحد، هو حرف قريش (لغة قريش)، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم، فكان إجماعا. وإنما لم يحتج الصحابة في أيام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلى جمع القرآن على الوجه الذي جمعه عليه عثمان؛ لأنه لم يحدث في أيامهما ما حدث في أيامه، وإنما فعل عثمان ما فعل حسما للاختلاف بين المسلمين، وتوحيدا لهم على كتاب الله.

والأمر الذي ينبغي الانتباه إليه في فعل عثمان رضي الله عنه أن هذا الحرف الذي جمع عليه القرآن -وهو حرف من الأحرف السبعة التي نص عليها الحديث- إنما كان على لغة قريش -كما ذكرنا- وأن هذا النسخ العثماني للقرآن لم يكن منقوطا بالنقاط، ولا مضبوطا بالشكل، فاحتمل الأمر قراءة ذلك الحرف على أكثر من وجه، وفق ما يحتمله اللفظ، كقراءة قوله تعالى: {فتبينوا} و{فتثبتوا} ونحو ذلك، ثم جاء القراء بعد -وكانوا قد تلقوا القرآن ممن سبقهم- فقرؤوا ما يحتمله اللفظ من قراءات، واختار كل واحد منهم قراءة حسب ما تلقاه ووصل إليه؛ وهكذا اختار بعضهم القراءة بالإمالة، واختار بعضهم إثبات الياءات، ورأى البعض الآخر حذفها، واختار البعض القراءة بتحقيق الهمزة، واختار الآخر القراءة بتسهيلها، وهذا يدل على أن كلا اختار قراءته -ضمن ما يحتمله خط المصحف العثماني- وفق ما وصله، دون أن ينكر أحد القراء على أحد، لأن تلك القراءات كلها ثبتت بطرق متواترة، ودون أن يعني ذلك أن عدم قراءة أحد من القراء على وفق قراءة غيره، أن قراءة الأخير غير صحيحة، بل جميع تلك القراءات التي قرأ بها القراء السبعة قراءات توقيفية، ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع المسلمون على صحتها والقراءة بها. والمسألة في هذا أشبه ما يكون في نقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم في "صحيحهما" ما صح عندهما من حديث رسول الله، وقد انفرد كل منهما برواية بعض الأحاديث التي لم يروها الآخر، وأيضا فقد صح من الأحاديث ما لم يروه البخاري ومسلم، وعلى هذا المحمل ينبغي أن يفهم وجه اختلاف القراء في القراءات.

يتبين مما تقدم، أن الاختلاف والتعدد في القراءات القرآنية أمر ثابت وواقع، فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقر عليه الصحابة رضي الله عنهم، وعمل بهذا الاختلاف الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم من غير نكير من أحد منهم، وقد جاء هذا الاختلاف في القراءات على وفق تعدد لسان العرب ولغاتهم، توسعة وتيسيرا عليهم، إضافة لمقاصد أخر تعلم في موضعها. وقد أصبحت هذه القراءات منتشرة في أقطار المسلمين كافة، كل حسب القراءة التي تلقاها وتواترت لديه، يتناقلها جيل عن جيل، وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة