- اسم الكاتب:د. علي بن عبد الله الصياح *
- التصنيف:خواطـر دعوية
هذه الكلمة مأثورة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله. قال أبو محمد بن حزم: هذا أبو حنيفة يقول: ما جاء عن الله ـ تعالى ـ فعلى الرأس والعينين، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعا وطاعة، وما جاء عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ تخيرنا من أقوالهم، ولم نخرج عنهم، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال، إذن قائل هذه الكلمة السائرة الإمام المشهور: أبو حنيفة النعمان ابن ثابت فقيه العراق الذي رأى أنس بن مالك، وسمع عطاء بن أبي رباح، ونافعا مولى ابن عمر، وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم، وقد ولد سنة ثمانين، ومات سنة خمسين ومائة على الصحيح، وعرف أن المقصود بقوله: هم رجال أقرانه ونظراؤه من التابعين.
إذا تبين ما تقدم علم أن هذه الكلمة ابتذلت عند كثير من الناس في هذا الزمان ـ خاصة المتعالمين منهم ممن يسمون مفكرين، وكذلك من الناشئة في طلب العلم، فلم يراعوا مكانة القائل، ولا قدر من قيلت فيه هذه الكلمة. نعم إذا قال: هم رجال، ونحن رجال من كان في منزلة أبي حنيفة في نظرائه من أهل العلم فحق له ذلك؛ لأن قول بعضهم ليس حجة على بعض.
إن هذه الكلمة أصبحت مطية يركبها من يريد أن يرد أقوال الأئمة المتقدمين، والسلف الصادقين بلا حجة ولا برهان، ومن يريد أن يمرر آراءه الشاذة، وأقواله الضعيفة، واختياراته الغريبة، ومن يريد أن يظهر نفسه على حساب أئمة العلم والدين.
نعم هم رجال ونحن رجال في أصل الخلقة والصفات المشتركة من سمع وبصر وجوارح، ولكن الله حباهم ـ بفضله ومنته وحكمته ـ غزارة في العلم، وإخلاصا في العمل، وصدقا في الدعوة، وصبرا عند الأذى والبلاء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن آتاه الله علما وإيمانا علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل. ما أجمل وأبلغ هذه العبارة من هذا الإمام الخبير!
قال الخطيب البغدادي ـ لما ذكر الأئمة المتقدمين وما وقع من بعضهـم من وهم في الجمـع والتفـريق بين الـرواة ـ: ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه، ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه، يلحق سيئ الظن بنا، ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك وبهم ذكرنا، وبشعاع ضيائهم تبصرنا، وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا؟ وما مثلهم ومثلنا إلا ما ذكر أبو عمرو بن العلاء فيما أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ قال: أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم قال: حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال: قال أبو عمرو: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال، وأبو عمرو بن العلاء هو: المازني البصري شيخ القراء والعربية، وأحد القراء السبعة، مات سنة أربع وخمسين ومائة، فإذا كان أبو عمرو يقول هذا وهو متقدم الوفاة، فماذا ترانا نقول ونحن نعيش في القرن الخامس عشر من الهجرة وما فيه من كثرة الشبهات، ووفرة الشهوات؟ رحماك رب!
قال الشاطبي ـ لما ذكر طريقين لأخذ العلم عن أهله ـ: الأول: المشافهة، والثاني: مطالعة كتب المصنفين. قال: وهو نافع في بابه بشرطين ثم ذكر الشرط الأول، ثم قال ـ: الشرط الثاني: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر: أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان؛ فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري؛ فأعمال المتقدمين ـ في إصلاح دنياهم ودينهم ـ على خلاف أعمال المتأخرين؛ وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين؛ والتابعون ليسوا كتابعيهم؛ وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم وأقوالهم وحكاياتهم أبصر العجب في هذا المعنى، وأما الخبر ففي الحديث: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم... والأخبار هنا كثيرة، وهي تدل على نقص الدين والدنيا، وأعظم ذلك العلم، فهو إذا في نقص بلا شك؛ فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أي نوع كان، وخصوصا علم الشريعة الذي هو العروة الوثقى، والوزر الأحمى وبالله ـ تعالى ـ التوفيق.
وقال الذهبي: جزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة.
وقد عقد ابن القيم في كتابه: إعلام الموقعين فصلا لبيان فضل علم السلف قال في أوله: فصل في جواز الفتوى بالآثار السلفية والفتاوى الصحابية، وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ـ وأن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أولى من فتاوي تابعي التابعين، وهلم جرا، وكما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب وهذا حكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل؛ كما ان عصر التابعين وإن كان أفضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص، ولكن المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم؛ فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين...
ومن علامات أهل البدع: الوقيعة في سلف الأمة ورميهم بالجهل تارة، وبعدم الفهم والسذاجة تارة كما يقولون: منهج السلف أسلم، ومنهج الخلف أعلم وأحكم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من ديـن الإسلام، وأضله الله على علم، كما قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد؛ أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقال غيره: عليكم بآثار من سلف؛ فإنهم جاؤوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه. هذا وقد قال لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، فكيف يحدث لنا زمان في الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله ـ تعالى ـ هذا لا يكون أبدا.. وما أحسن ما قال الشافعي ـ رحمه الله ـ في رسالته: هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا.
قال ابن رجب: وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم؛ فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين... وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم، وقال: فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة، ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه من بعدهم ولا يلم به، فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم.
- ومن أخطر الأمور تربية النشء على الاعتراض على الأئمة السابقين، والعلماء الربانيين بغير حجة ولا برهان، وتصوير ذلك بأنه هو التجرد والاجتهاد وعلامة العلم والتحقيق، ونشر مثل هذه الكلمات: هم رجال ونحن رجال، و وكم ترك الأول للآخر، والمتأخر جمع ما عند الأولين من العلم فهو أوسع علما ونحو ذلك من الكلمات الواســعة والتي قـد تفهـم خطأ كما تقدم.
- إن ما تقدم ليس دعوة للتقليد؛ فإن التقليد ـ وهو: قبول قول الغير من غير معرفة دليله ـ لا يجوز لمن تحققت أهليته واتسع وقته، بل هي دعوة للاتباع الصادق، وإنزال الناس منازلهم، فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته ولا يرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته ويعطي كل ذي حق فيه حقه وينزل منزلته، وقد ذكر عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم مع ما نطق به القرآن من قول الله ـ تعالى ـ: {وفوق كل ذي علم عليم } [يوسف: 76]. كما قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه.
ووضع الأمور في مواضعها، والعدل في القول والعمل، ومعرفة أن لسلفنا الصالح منهجا فريدا متكاملا في العلم والعمل، نابعا من الكتاب والسنة، وما عليه الصحابة الكرام، فكانوا بحق هم أجدر من يقتدى بهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام. وفي الصحيحين من حديث عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود قال: سئل النبي أي الناس خير؟ قال: قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته.
والأمر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن آتاه الله علما وإيمانا علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل.
- وثمت أمر آخر تنطوي عليه كلمة هم رجال ونحن رجال وهو تزكية النفس، وقد دل الكتاب والسنة على المنع من ذلك. قال ـ تعالى ـ: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: 32]، وقال ـ سبحانه ـ: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء} [النساء: 49]، وروى مسلم في صحيحه من حديث يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم، فقالوا: بم نسميها؟ قال: سموها زينب.
فطالب العلم الصادق لا يزكي نفسه تصريحا أو تلميحا. قال ابن رجب: وأما من علمه غير نافع فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس، وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل، وتنقصهم ليرتفع بذلك عليهم؛ وهذا من أقبح الخصال وأردئها، وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو، فيوجب له حب نفسه وحب ظهورها، وإحسان ظنه بها وإساءة ظنه بمن سلف، وأهل العلم النافع على ضد هذا يسيئون الظن بأنفسهم ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها،... وكان ابن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد(12)
- ثم لماذا لا تفهم كلمة هم رجال ونحن رجال فهما آخر سليما يناسب حالنا وزماننا فيقال: هم رجال صدقوا في الطلب والعلم والعمل والدعوة، وصبروا على ذلك، فأصبحوا رجالا بكل معاني الرجولة، و نحن رجال بمعنى: عندنا من المؤهلات والصفات ما يجعلنا نقتدي ونستفيد منهم، وأن نخدم الدين كما خدموه مع معرفتنا الأكيدة بالفرق الكبير بيننا وبينهم في العلم والعمل؟
- وعودا على بدء: إذا قال: هم رجال ونحن رجال من كان في منزلة أبي حنيفة في نظرائه من أهل العلم فحق له ذلك؛ لأن قول بعضهم ليس حجة على بعض، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
_______________________________________________
(*) قسم الدراسات الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود.