نشأة النصرانية وتطورها ( 2 )

2 901
  • اسم الكاتب:الشبكة الإسلامية

  • التصنيف:المقالات

كنا قد تكلمنا في مقال سابق عن نشأة النصرانية وتطورها ، ووصلنا إلى الطور الذي تحولت فيه النصرانية من دين مضطهد إلى دين رسمي ، وذلك بعد أن اعتنقه ملك الرومان قسطنطين ، وأصدر مرسوما ملكيا باعتبار الدين النصراني دينا مسموحا به في الدولة الرومانية ، وأرجع أملاك النصارى المصادرة ، ورد لهم هيبتهم بين الناس .
غير أن فترة الرخاء تلك قد أظهرت ما كان مستترا فترة الاضطهاد من التفرق والاختلاف في المذاهب والآراء حول قضايا جوهرية من العقيدة النصرانية ، الأمر الذي أقلق الملك قسطنطين فما كان منه أمام هذه المعضلة إلا أن عقد مجمعا - مجمع نيقية سنة 325م - دعا إليه علماء النصارى ليتباحثوا فيما آل إليه أمر النصرانية من التفرق والشتات في المذاهب والآراء ، فحضر المجمع - حسب تقدير بعض مؤرخيهم - ( 2048 ) أسقفا ، وكانت آراءهم متباينة أشد التباين ، فمنهم من يقول : إن المسيح وأمه إلهان ، وهم البربرانية ، ومنهم من يقول : إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها ، ومنهم من كان يقول : لم تحبل مريم بعيسى تسعة أشهر ، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب ، ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان مخلوق من اللاهوت ، ويرون الله جوهرا قديما واحدا ، وأقنوما واحدا ، ولا يؤمنون بالكلمة ، ولا بالروح القدس ، إلى آراء كثيرة متعارضة متناقضة ، فاجتمع الأساقفة لمناقشة تلك الآراء ، فاختلفوا اختلافا شديدا ، ورأى ( 318 ) أسقفا القول بألوهية المسيح ، وأنه ابن الله - في زعمهم - أي من ذات الله ، وأنه مساو لله جل وعلا ، وأنه مولود منه غير مخلوق ، كما رأوا أن هذا الإله تجسد في صورة البشر لخلاص الناس ثم ارتفع إلى السماء بعد قيامته من الموت ، فاستهوى هذا الرأي الملك الروماني ، فقرره ، وفرضه على بقية الأساقفة ، وقرروا لعن رأي أريوس الذي كان يعتقد أن المسيح عبد مخلوق محدث بعد أن لم يكن ، ولم يكن المخالف هو أريوس وأتباعه وحدهم ، بل إن جل المجتمعين لم يوافقوا على قرارات المجمع ، وإن لم تتفق آراؤهم فيما بينهم .
غير أن قوة السيف كانت هي الحكم في نهاية المطاف فاختتم مجمع نيقية جلساته بتلك القرارات ، وأصبح من يخالف تلك الآراء متهما بالهرطقة - الكفر - معرضا نفسه للمحاسبة والعقاب الشديد ، فعاشت النصرانية طورا آخر من أطوار الاضطهاد ولكنه بسيف النصرانية هذه المرة .
ونظرا لأن قرارات مجمع نيقية لم تتخذ بناء على دلائل وبراهين يسلم بها المخالف ، ويقتنع بها الموافق ، فقد طرأ للملك الروماني ما جعله يغير رأيه ويرجع إلى رأي أريوس ، فعقد مجمعا آخر - مجمع صور سنة 334م - رجع فيه عن القول بألوهية المسيح ، وقرر فيه إعادة أريوس إلى الكنيسة وخلع " أثنا سيوس " وكان من أشد أنصار قرارات مجمع نيقية ، وبهذا يتبين مدى تلاعب الإمبراطور بهذا المجمع الهام في تاريخ النصرانية ، ويتبين مدى خلو تلك المجامع عن منطق الحجة والدليل في إقناع المخالف ، واعتمادهم على قوة سلطة الحاكم في ترجيح الآراء ، وذلك في أعظم القضايا وأخطرها .
لهذا لم تكن تلك المجامع ذات أثر عملي في فض النزاع ، فما إن يعود كل أسقف إلى بلده وموطن دعوته حتى يظهر ما كان يدعوا إليه إن سرا وإن جهرا ، وكأن شيئا لم يكن ، وهذا ما دعا النصارى إلى تكرار سنة الملك الروماني في عقد المجامع - علها أن تحل خلافاتهم - فعقدوا مجامع أخرى كمجمع القسطنطينية ( 381م ) ، ومجمع أفسس ( 431م ) ومجمع خلقدونية ( 451م ) ، والمجمع الثامن ( 869م ) والذي قرر فيها قول كنيسة روما بأن الروح القدس انبثق من الأب والابن معا ، ولم يوافق على ذلك بطريرك القسطنطينية فانقسمت الكنيسة بسببه إلى قسمين :
1- الكنيسة الغربية ويتزعمها البابا في روما وهم الكاثوليك .
2- الكنيسة الشرقية ويتزعمها بطريك القسطنطينية وهم الأرثوذكس .
ثم انعقد المجمع الثاني عشر الذي عقد سنة 1215م وتقرر فيها أن العشاء الرباني - شعيرة من شعائر النصارى - يتحول إلى جسد ودم المسيح ، وأن الكنيسة البابوية الكاثوليكية تملك حق الغفران ، وتمنحه لمن تشاء .
ثم انعقد مجمع روما 1769م وتقرر فيه عصمة بابا روما .
فهذه لمحة تاريخية عن المجامع النصرانية التي لعبت دورا هاما في إقرار أو رفض ما تراه من المذاهب والآراء ، ولكنها لم تحقق ما كانت تهدف إليه من تجمعهم ، بل لا يخرج المجتمعون من مجامعهم تلك إلا وهم أشد تفرقا وأعظم نفورا ، فمجامعهم كما وصفها ابن القيم : " كانت تجتمع على الضلال ، وتفترق على اللعن، فلا ينفض مجمع إلا وهم ما بين لاعن وملعون " أهـ . ، فهم كما وصفهم سبحانه { قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } (المائدة: من الآية77) ، نسأل المولى عز وجل أن يثبتنا على دينه ، وأن يبعثنا عليه ، ونحمده تعالى أن جعلنا من عباده المسلمين ولم يجعلنا يهودا أو نصارى مغضوبا عليهم وضالين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

مواد ذات صلة