الرضا جنة العارفين

1 1805

قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة، وكان قد كف بصره، فجاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة. قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم.. فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فرد الله عليك بصرك. فتبسم وقال: يا بني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري.
إنه الرضا الذي وطنوا أنفسهم عليه، بحيث صارت أقدار الله عز وجل أحب إليهم من هوى أنفسهم، بل صاروا لا يهوون غيرها، حتى قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما لي هوى في شيء سوى ما قضى الله عز وجل.
ومما يدل على علو قدر الرضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله الرضا بالقضاء، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسال ربه إلا أعلى المقامات.
إن الرضا هو الوقوف الصادق مع مراد الله، من غير تردد في ذلك ولا معارضة، وهذا مطلوب القوم السابقين، يقف العبد حيثما وقفه ربه لا يطلب تقدما ولا تأخرا، وهذا يكون فيما يقفه فيه من مراده سبحانه الكوني الذي لا يتعلق بأمر ولا نهي، وأما إذا وقفه في مراد ديني فكماله بطلب التقدم فيه دائما.
وكان السلف رضي الله عنهم يتواصون بالرضا وتربية النفس عليه، لعلمهم بعلو منزلته، فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فيقول: "أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر".
وكان من وصايا لقمان عليه السلام لولده: "أوصيك بخصال تقربك من الله وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت".
إن من وطن نفسه على الرضا عاش في الدنيا حياة طيبة، ولم تعرف الهموم والأكدار إلى قلبه سبيلا، كيف وقد رضي الله عنه ورضي هو عن الله؟ إن الله عز وجل يقول : (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة..) وقد فسرها بعض السلف بأنها حياة الرضا والقناعة.
ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لزوجته عاتكة رضي الله عنهما: "والله لأسوأنك - وكان قد غضب عليها - فقالت: أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله له؟ قال: لا. قالت: فأي شيء تسؤني به إذا؟" تريد أنها راضية بمواضع القدر لا يسؤها منه شيء إلا صرفها عن الإسلام ولا سبيل له إليه.

صحة الرضا عن الله بثلاثة شروط:
الأول:
استواء النعمة والبلية عند العبد؛ لأنه يشاهد حسن اختيار الله له. ومن هذا الباب ما حدث مع بعض السلف حين ابتلوا بالشدائد فصبروا لها، وظهر منهم الرضا.
فهذا عمر بن عبد العزيز يموت ولده عبد الملك فيدخل عليه سليمان بن الغاز معزيا، فيقول له عمر: "وأنا أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الأمور يخالف محبة الله، فإن ذلك لا يصلح لي في بلائه عندي وإحسانه إلي".
وعن إبراهيم النخعي: أن أم الأسود قعدت من رجليها، فجزعت ابنة لها، فقالت: لا تجزعي، اللهم إن كان خيرا فزد.
الثاني: سقوط الخصومة عن الخلق إلا فيما كان حقا لله ورسوله، فالمخاصمة لحظ النفس تطفئ نور الرضا وتذهب بهجته، وتبدل بالمرارة حلاوته، وتكدر صفوه.
الثالث: الخلاص من الإلحاح في مسألة الخلق، قال الله تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) [البقرة:273].
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يتقبل لي بواحدة وأتقبل له بالجنة قال: قلت: أنا قال: لا تسأل الناس شيئا". فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد: ناولنيه حتى ينزل فيتناوله.[رواه أحمد].

الرضا ذروة سنام الإيمان:
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "ذروة سنام الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب عز وجل.
وقال ابن القيم رحمه الله: الرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان.
منعه عطاء:
قال سفيان الثوري رحمه الله: منعه عطاء. وذلك أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم، وإنما نظر في خير عبده المؤمن، فمنعه اختيارا وحسن نظر.
فإن الله عز وجل لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرا له، ساءه القضاء أو سره. فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاء، وإن كان صورة المنع، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية. ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، ولو رزق من المعرفة حظا وافرا لعد جميع ما قضاه الله عز وجل وقدر نعمة وعطاء وعافية، وهذه كانت حال السلف. ولن يجد العبد حلاوة الإيمان إلا بهذا: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا و بالإسلام دينا وبمحمد رسولا".
فاللهم رضنا بقضائك وبارك لنا في قدرك، حتى لا نحب تعجيل شيء أخرته، ولا تأخير شيء عجلته.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة