- اسم الكاتب:د/سعيد عبد العظيم
- التصنيف:أحوال القلوب
الأتقياء الأخفياء قوم استقاموا على كتاب الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان تعاملهم مع الله في عسرهم ويسرهم ومنشطهم ومكرههم، ولذلك كرهوا الشهرة، فعن حبيب بن أبي ثابت قال: خرج ابن مسعود ذات يوم فاتبعه ناس فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا: لا ولكن أردنا أن نمشي معك. قال: ارجعوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وقال: لو تعلمون ما أعلم من نفسي حثيتم على رأسي التراب.
لقد حرص الأتقياء الأخفياء على الإخلاص في العمل والصدق مع الله حتى قال أهل المدينة: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين. وكان عمل الربيع كله سرا، وإن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه، وما رئي متطوعا في مسجد قومه إلا مرة واحدة، وكان رحمه الله يقول: كل ما لا يبتغى به وجه الله عز وجل يضمحل.
وأتقى الخلق لله هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بقية أولي العزم من الرسل [ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ] عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم بقية المرسلين، ثم أبو بكر وعمر وعلي وسائر العشرة المبشرين بالجنة ثم أصحاب بيعة الرضوان وبيعة العقبة وأهل بدر وأحد، ثم سائر الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - وكل صحابي أفضل من كل من جاء بعده.
ثم سرعان ما تغير الحال وتبدل وأطلت الغربة برأسها وظهرت البدع، وتطلع الناس إلى المال والجاه والسلطان، وطلبوا الشهرة، ولو على حساب دينهم، وانبهروا بالمشاهير من الكفرة الفجرة، وعز وجود الأتقياء الأخفياء، فتباعدوا بذلك عن معاني الكرامة الحقيقية { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } الحجرات: 13 وصاروا راضين بالدنيا مؤثرين للحطام الفاني على ما عند الله تعالى، فما أحرانا اليوم أن نعود إلى سيرة هؤلاء الأتقياء الأخفياء، ونطالع أقوالهم وأفعالهم.
**فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف***
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ، منهم البراء بن مالك". [ رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وصححه الألباني]
عن سهل بن سعد الساعدي قال :مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"ما تقولون في هذا الرجل؟" قالوا " نقول هذا من أشرف الناس، هذا حري إن خطب أن يخطب، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ومر رجل آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :ما تقولون في هذا ؟ قالوا نقول والله يا رسول الله :هذا من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب لم ينكح ، وإن شفع لا يشفع ، وإن قال لا يسمع لقوله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لهذا خير من ملء الأرض مثل هذا".[البخاري وغيره].
**أويس القرني***
هو القدوة الزاهد, سيد التابعين في زمانه أبو عمرو, أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرني المرادي اليماني.
وقرن بطن من مراد, وفد على عمر وروى قليلا عنه , وعن علي .
وقد كان من أولياء الله المتقين ومن عباده المخلصين.
روى مسلم عن أسير بن جابر , قال : كان عمر بن الخطاب , إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم : أفيكم أويس بن عامر ؟ حتى أتى على أويس فقال : أنت أويس بن عامر ؟ قال : نعم . قال : من مراد ثم من قرن ؟ قال : نعم . قال : فكان بك برص , فبرأت منه إلا موضع درهم ؟ قال : نعم قال : ألك والدة ؟ قال نعم . قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن , كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم , له والدة , هو بها بر , لو أقسم على الله لأبره , فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل" ؛ فاستغفر لي . قال : فاستغفر له . فقال له عمر : أين تريد ؟ قال : الكوفة . قال : ألا أكتب لك إلى عاملها ؟ قال : أكون في غبراء الناس أحب إلي , قال : فلما كان من العام المقبل , حج رجل من أشرافهم , فوافق عمر , فسأله عن أويس , فقال : تركته رث الهيئة , قليل المتاع . قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن , من مراد ثم من قرن , كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم , له والدة هو بها بر , لو أقسم على الله لأبره , فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فأتى أويسا فقال : استغفر لي , قال : أنت أحدث عهدا بسفر صالح , فاستغفر لي . قال : استغفر لي . قال : لقيت عمر ؟ قال : نعم . قال : فاستغفر له , قال : ففطن له الناس , فانطلق على وجهه , قال أسير : وكسوته بردة . وكان كل من رآه قال : من أين لأويس هذه البردة ؟..
**علي بن الحسين ***
ابن الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف , السيد الإمام, زين العابدين , الهاشمي العلوي , المدني. وأمه أم ولد , اسمها سلامة (سلافة) بنت ملك الفرس يزدجرد , وقيل : غزالة . ولد في سنة ثمان وثلاثين . ظنا .
وحدث عن أبيه الحسين الشهيد , وكان معه يوم كائنة كربلاء وله ثلاث وعشرون سنة , وكان يومئذ موعوكا فلم يقاتل , ولا تعرضوا له , بل أحضروه مع آله إلى دمشق , فأكرمه يزيد , ورده مع آله إلى المدينة.
قال ابن سعد : هو علي الأصغر , وأما أخوه علي الأكبر , فقتل مع أبيه بكربلاء . وكان علي بن الحسين ثقة مأمونا , كثير الحديث ، عاليا ، رفيعا ورعا .
روى ابن عيينة , عن الزهري , قال : ما رأيت قرشيا أفضل من علي بن الحسين .
عن هشام بن عروة , قال : كان علي بن الحسين يخرج على راحلته إلى مكة ويرجع لا يقرعها , وكان يجالس أسلم مولى عمر , فقيل له : تدع قريشا , وتجالس عبد بني عدي ! فقال : إنما يجلس الرجل حيث ينتفع .
وعن عبد الرحمن بن أردك -يقال هو أخو علي بن الحسين لأمه- قال : كان علي بن الحسين يدخل المسجد , فيشق الناس حتى يجلس في حلقة زيد بن أسلم , فقال له نافع بن جبير : غفر الله لك , أنت سيد الناس , تأتي تتخطى حتى تجلس مع هذا العبد , فقال علي بن الحسين : العلم يبتغى ويؤتى ويطلب من حيث كان .
عن الزهري : لم أدرك من أهل البيت أفضل من علي بن الحسين .
عن مالك , قال : لم يكن في أهل البيت مثله , وهو ابن أمة .
عن يحيى بن سعيد : سمعت علي بن الحسين -وكان أفضل هاشمي أدركته- يقول : يا أيها الناس , أحبونا حب الإسلام , فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا .
عن الزهري , قال : حدثت علي بن الحسين بحديث , فلما فرغت قال : أحسنت ! هكذا حدثناه ; قلت : ما أراني إلا حدثتك بحديث أنت أعلم به مني ; قال : لا تقل ذاك , فليس ما لا يعرف من العلم ؛ إنما العلم ما عرف , وتواطأت عليه الألسن .
وقيل : إن رجلا قال لابن المسيب : ما رأيت أورع من فلان . قال : هل رأيت علي بن الحسين ؟ قال : لا . قال : ما رأيت أورع منه .
وعن أبي نوح الأنصاري , قال : وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد , فجعلوا يقولون : يا ابن رسول الله النار . فما رفع رأسه حتى طفئت . فقيل له في ذلك فقال : ألهتني عنها النار الأخرى .
عن عبد الله بن أبي سليمان , قال : كان علي بن الحسين إذا مشى لا تجاوز يده فخذيه ولا يخطر بها , وإذا قام إلى الصلاة , أخذته رعدة , فقيل له , فقال : تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي ؟ !
وعنه, أنه كان إذا توضأ اصفر.
عن سفيان : حج علي بن الحسين , فلما أحرم , اصفر وانتفض ولم يستطع أن يلبي , فقيل : ألا تلبي ؟ قال : أخشى أن أقول : لبيك , فيقول لي : لا لبيك . فلما لبى , غشي عليه , وسقط من راحلته .
فلم يزل بعض ذلك به حتى قضى حجه .
عن مالك : أحرم علي بن الحسين , فلما أراد أن يلبي , قالها , فأغمي عليه , وسقط من ناقته , فهشم . ولقد بلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات . وكان يسمى زين العابدين لعبادته .
وعن حجاح بن أرطاة , عن أبي جعفر , أن أباه قاسم الله تعالى ماله مرتين . وقال : إن الله يحب المذنب التواب .
عن أبي حمزة الثمالي , أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة , ويقول : إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب .
عن محمد بن إسحاق : كان ناس من أهل المدينة يعيشون , لا يدرون من أين كان معاشهم , فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل .
عن عمرو بن ثابت : لما مات علي بن الحسين , وجدوا بظهره أثرا مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل .
وقال شيبة بن نعامة : لما مات علي وجدوه يعول مائة أهل بيت .
وقال بعضهم : ما فقدنا صدقة السر , حتى توفي علي .
عن علي بن موسى الرضا قال: حدثنا أبي عن أبيه , عن جده , قال علي بن الحسين : إني لأستحيي من الله أن أرى الأخ من إخواني , فأسأل الله له الجنة وأبخل عليه بالدنيا , فإذا كان غدا قيل لي : لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل .
قال أبو حازم المدني : ما رأيت هاشميا أفقه من علي بن الحسين ; سمعته وقد سئل : كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأشار بيده إلى القبر , ثم قال : بمنزلتهما منه الساعة . رواها ابن أبي حازم عن أبيه .
عن جعفر بن محمد , عن أبيه , قال : جاء رجل إلى أبي فقال : أخبرني عن أبي بكر ؟ قال له : عن الصديق تسأل ؟ قال : وتسميه الصديق ؟ ! قال : ثكلتك أمك , قد سماه صديقا من هو خير مني ، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرون , والأنصار , فمن لم يسمه صديقا , فلا صدق الله قوله , اذهب فأحب أبا بكر وعمر وتولهما , فما كان من أمر ففي عنقي .
وعنه , أنه أتاه قوم فأثنوا عليه فقال : حسبنا أن نكون من صالحي قومنا .
عن علي بن الحسين , قال : إن الجسد إذا لم يمرض أشر , ولا خير في جسد يأشر .
عن علي بن الحسين , قال : فقد الأحبة غربة . وكان يقول : اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوائح العيون علانيتي , وتقبح في خفيات العيون سريرتي ; اللهم كما أسأت وأحسنت إلي ; فإذا عدت , فعد علي .
قال زيد بن أسلم ; كان من دعاء علي بن الحسين : اللهم لا تكلني إلى نفسي فأعجز عنها , ولا تكلني إلى المخلوقين فيضيعوني .
عن أبي يعقوب المدني , قال : كان بين حسن بن حسن وبين ابن عمه علي بن الحسين شيء , فما ترك حسن شيئا إلا قاله , وعلي ساكت , فذهب حسن , فلما كان في الليل أتاه علي , فخرج , فقال علي : يا ابن عمي إن كنت صادقا فغفر الله لي , وإن كنت كاذبا , فغفر الله لك , السلام عليك . قال : فالتزمه حسن , وبكى حتى رثى له .
وقيل : كان علي بن الحسين إذا سار في المدينة على بغلته , لم يقل لأحد : الطريق .. ويقول : هو مشترك ليس لي أن أنحي عنه أحدا .
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء كان له جلالة عجيبة , وحق له -والله- ذلك ؛ فقد كان أهلا للإمامة العظمى لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه وكمال عقله . قد اشتهرت قصيدة الفرزدق وهي سماعنا -أن هشام بن عبد الملك حج قبيل ولايته الخلافة , فكان إذا أراد استلام الحجر زوحم عليه , وإذا دنا علي بن الحسين من الحجر تفرقوا عنه إجلالا له , فوجم لها هشام وقال : من هذا ؟ فما أعرفه(كأنه يتنكر له) . فأنشأ الفرزدق يقول :
هـذا الذي تعرف البطحاء وطأتـه والبيـت يعرفـه والحـل والحرم
هـذا ابـن خير عباد الله كلهــم هـذا التقي النقي الطاهر العلــم
إذا رأتــه قـريش قـال قائلهـا إلـى مكـارم هـذا ينتهي الكـرم
يكـاد يمســكه عرفـان راحتـه ركـن الحطيم إذا ما جاء يستلــم
يغضـي حياء ويغضـى من مهابته فمــا يكــلم إلا حـين يبتسـم
هـذا ابـن فاطمة إن كنت جاهلـه بجــده أنبيـاء اللـه قد ختمـوا
وهي قصيدة طويلة . قال : فأمر هشام بحبس الفرزدق , فحبس بعسفان , وبعث إليه علي بن الحسين باثني عشر ألف درهم وقال : اعذر أبا فراس . فردها وقال : ما قلت ذلك إلا غضبا لله ولرسوله. فردها إليه وقال : بحقي عليك لما قبلتها , فقد علم الله نيتك ورأى مكانك . فقبلها.
جعلنا الله من الأتقياء الأخفياء وحشرنا في زمرتهم.