يؤذيني ابن آدم يسب الدهر

18 3165

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار ) رواه البخاري ومسلم ، وجاء الحديث بألفاظ مختلفة منها رواية مسلم : ( قال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم يقول : يا خيبة الدهر ، فلا يقولن أحدكم : يا خيبة الدهر ، فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما ) ، ومنها رواية للإمام أحمد : ( لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل قال : أنا الدهر الأيام والليالي لي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك ) وصححه الألباني .

معاني المفردات

السب : الشتم أو التقبيح والذم .

الدهر : الوقت والزمان .

يؤذيني : أي ينسب إلي ما لا يليق بي .

وأنا الدهر : أنا ملك الدهر ومصرفه ومقلبه . 

معنى الحديث

أقسم الله تعالى بالعصر والزمان لعظمته وأهميته ، فهو ظرف العمل ووعاؤه ، وهو سبب الربح والخسارة في الدنيا والآخرة ، وهو الحياة ، فما الحياة إلا هذه الدقائق والثواني التي نعيشها لحظة بلحظة ، ولهذا امتن الله به على عباده فقال : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا }(الفرقان: 62) فمن فاته عمل الليل قضاه بالنهار ، ومن فاته عمل النهار قضاه بالليل .

وكان أهل الجاهلية إذا أصابتهم مصيبة ، أو حرموا غرضا معينا أخذوا يسبون الدهر ويلعنون الزمان ، فيقول أحدهم : " قبح الله الدهر الذي شتت شملنا " ، و" لعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا " ، وما أشبه ذلك من عبارات التقبيح والشتم ، فجاء هذا الحديث لرد ما يقوله أهل الجاهلية ومن شابههم وسلك مسلكهم ، فبين أن ابن آدم حين يسب الدهر والزمان ، فإنما يسب - في الحقيقة - الذي فعل هذه الأمور وقدرها ، حتى وإن أضاف الفعل إلى الدهر ، فإن الدهر لا فعل له ، وإنما الفاعل هو رب الدهر المعطي المانع ، الخافض الرافع ، المعز المذل ، وأما الدهر فليس له من الأمر شيء ، فمسبتهم للدهر هي مسبة لله عز وجل ، ولهذا كانت مؤذية للرب جل جلاله .

ومثل من يفعل ذلك كرجل قضى عليه قاض بحق أو أفتاه مفت بحق ، فجعل يقول : " لعن الله من قضى بهذا أو أفتى بهذا " ، ويكون ذلك من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتياه فيقع السب عليه في الحقيقة ، وان كان الساب لجهله أضاف الأمر إلى المبلغ ، مع أن المبلغ هنا ناقل للحكم ، فكيف بالدهر والزمان الذي هو مجرد وعاء ، وطرف محايد لا له ولا عليه ، والله تعالى هو الذي يقلبه ويصرفه كيف يشاء .

إذا فالإنسان بسبه للدهر يرتكب جملة من المفاسد ، منها أنه سب من ليس أهلا للسب ، فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله ، منقاد لأمره متذلل لتسخيره ، فسابه أولى بالذم والسب منه .

ومنها أن سبه قد يتضمن الإشراك بالله جل وعلا ، إذا اعتقد أن الدهر يضر وينفع ، وأنه ظالم حين ضر من لا يستحق الضر ، ورفع من لا يستحق الرفعة ، وحرم من ليس أهلا للحرمان ، وكثيرا ما جرى هذا المعنى في كلام الشعراء القدماء والمعاصرين ، كقول بعضهم : 

                     يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا    وأنت والد سوء تأكل الولــــــدا
وقول المتنبي : 
                     قبحا لوجـهك يـا زمان كـــــأنه     وجـه لــه من كـل قـبح بــــرقع
وقال آخر :
                    إن تبتلى بلـئام الـنـاس يـرفـعـهـم    عليك دهر لأهل الفضل قد خانا

فساب الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما : إما مسبة الله ، أو الشرك به ، فإن اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك ، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك ، فهو يسب الله تعالى .

ثم إن في النهي عن سب الدهر دعوة إلى اشتغال الإنسان بما يفيد ويجدي ، والاهتمام بالأمور العملية ، فما الذي سيستفيده الإنسان ويجنيه إذا ظل يلعن الدهر ويسبه صباح مساء ، هل سيغير ذلك من حاله ؟ هل سيرفع الألم والمعاناة التي يجدها ؟ هل سيحصل ما كان يطمح إليه ؟ ، إن ذلك لن يغير من الواقع شيئا ، ولا بد أن يبدأ التغيير من النفس وأن نشتغل بالعمل المثمر بدل أن نلقي التبعة واللوم على الدهر والزمان الذي لا يملك من أمره شيئا .

                       نعيب زماننا والعـيـــــب فينا        ومـا لـزماننا عـيـب سـوانا

                      وقد نهجوا الزمان بغير جرم        ولو نطق الزمان بنا هجانا

هل الدهر من أسماء الله ؟

والدهر ليس من أسماء الله ، وذلك لأن أسماءه سبحانه كلها حسنى ، أي بالغة في الحسن أكمله ، فلابد أن تشتمل على وصف ومعنى هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة ، ولهذا لا يوجد في أسماء الله تعالى اسم جامد لا يدل على معنى ، والدهر اسم جامد لا يحمل معنى سوى أنه اسم للوقت والزمن .

ثم إن سياق الحديث أيضا يأبى أن يكون الدهر من أسماء الله لأنه قال : ( وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ) ، والليل والنهار هما الدهر ، فكيف يمكن أن يكون المقلب بفتح اللام هو المقلب بكسر اللام ؟! ولذلك يمتنع أن يكون الدهر اسما لله جل وعلا .

الأذى والضرر

وقد ذكر الحديث أن في سب الدهر أذية لله جل وعلا ، ولا يلزم من الأذية الضرر ، فقد يتأذى الإنسان بسماع القبيح أو مشاهدته أو الرائحة الكريهة مثلا ، ولكنه لا يتضرر بذلك ، ولله المثل الأعلى ، ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن فقال تعالى : { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا } (الأحزاب: 57)، ونفى عن نفسه أن يضره شيء ، فقال تعالى : { إنهم لن يضروا الله شيئا } (آل عمران: 176) ، وقال في الحديث القدسي : ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ) رواه مسلم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة