الفراسة الإيمانية

2 1065

حين يكون القلب موصولا بالله، والجوارح عاملة بطاعته كافة عن محارمه، يقذف الله في هذا القلب نورا يميز به بين الحق والباطل، بين الصادقين والكاذبين.
إن صاحب هذا القلب وهذه الجوارح يرى في الحقيقة بنور من الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم".[حسنه الألباني].
هذه البصيرة، وهذه المنة من الله هي ما يسميه العلماء: الفراسة الإيمانية، واستدلوا لها بآيات من كتاب الله عز وجل، نحو قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين)[الحجر:75]، فقد قال بعض أهل العلم: إنها نزلت في أهل الفراسة.

وقوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم)[محمد:30]، وقوله: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم)[البقرة:273].
إن أصل هذه الفراسة هو الحياة والنور اللذان يهبهما الله لمن يشاء من عباده فيستنير القلب، وبالتالي لا تكاد تخطئ له فراسة كما قال الله تعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون).[الأنعام:122].
قال بعض الصالحين: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغص بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة.
قال ابن القيم رحمه الله: "وسر هذا أن الجزاء من جنس العمل، فمن غض بصره عما حرم الله عز وجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه. فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى" اهـ.
وثمة فرق مهم بين الفراسة والظن، إذ الظن يخطئ ويصيب كما إن الظن يكون مع الطاعة أو المعصية مع حياة القلب ومرضه أو موته، كما إن منه ما هو حرام: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم)[الحجرات:12].

أهل الفراسة .. أهل الصلاح والتقى

كما أسلفنا فإن العبد إذا كان قريبا من ربه أفاض عليه من نوره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته".

ومما لا شك فيه أن من أعظم الأمة نصيبا من هذه الصفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا.. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه. وفي مقدمة هؤلاء: الصديق رضي الله عنه، والفاروق عمر بن الخطاب.
قال ابن القيم: "كان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووقائع فراسته مشهورة، فإنه ما قال لشيء أظنه كذا إلا كان كما قال، ويكفي في فراسته موافقته ربه في المواضع ا لمشهورة. فمن ذلك أنه قال: "يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى). وقال: يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقال لهن عمر: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك. وشاوره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فأشار بقتلهم، ونزل القرآن بموافقته.

ودخل رجل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها، فقال له عثمان: يدخل علي أحدكم وأثر الزنى ظاهر على عينيه؟! فقال الرجل: أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة.
والشواهد من حياتهم كثيرة رضي الله عنهم وأرضاهم.

ومن الفراسة التأمل والنظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه فعلا أو تركا، وهو أمر لا بد من الاهتمام به، فلا ينبغي الاقتصار على النظر السطحي للأمور، فكم فات الأمة من مصالح وكم جرت عليها الويلات بسبب هذه النظرة السطحية المتعجلة للأمور.
وهنا يجب الرجوع إلى العلماء الربانيين فهم أقرب إلى التوفيق والعلم بمآلات الأمور والنظر في العواقب، قال الله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) [النساء:83].
فهيا أحبابنا نعمر بواطننا بالإخلاص ودوام المراقبة وظواهرنا باتباع السنة، ولنلزم جوارحنا طاعة الله والكف عن المحارم، حتى يرزقنا الله الفراسة الإيمانية.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة