- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:أركان الدعوة
يحتاج الداعية خلال مسيرته الدعوية إلى إثراء مجموعة ثقافات تلزمه في دعوته .. ومن هذه الثقافات الثقافة التاريخية .. فالتاريخ هو ذاكرة البشرية، وسجل أحداثها، وديوان عبرها، والشاهد العدل لها أو عليها، ويهمنا في ذلك تاريخ الإسلام والأمة الإسلامية خاصة، وتاريخ الإنسانية بصفة عامة، أعني المواقف الحاسمة منه، والملامح الرئيسية فيه.
**لماذا دراسة التاريخ؟!!***
· لأن التاريخ يوسع آفاق الداعية في اطلاعه على أحوال الأمم، وتاريخ الرجال.. فيرى الإنسان من خلال دراسة التاريخ بعين بصيرته كيف تعمل سنن الله في المجتمعات بلا محاباة ولا جور؟ وكيف ترقى الأمم وتهبط، وكيف تقوم الدول وتسقط، وكيف تنتصر الدعوات وتنهزم، وكيف تحيا الحضارات وتموت، وكيف ينجح القادة ويفشلون، وكيف تنام القلوب وتصحو. قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)[الحج:46].
· ولأن التاريخ أصدق شاهد على ما يدعو إليه الدين من قيم ومفاهيم، فهو مرآة مصقولة تتجلى فيها عاقبة الإيمان والتقوى، ونهاية الكفر والفجور، وجزاء الشاكرين لأنعم الله، وعقوبة الكافرين بها.. وكيف يجني من يغرس الخير، ويحصد من يزرع الشوك، ولذا عني القرآن الكريم بذكر قصص السابقين، وتواريخ الغابرين، لما فيها من عبر بليغة، وعظات حية.. كما قال تعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص * إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)[ق:36، 37].
والداعية يحتاج إلى أن يستشهد للمعاني والقيم التي يدعو إليها بأحداث التاريخ، ومواقف الأبطال، وأحوال الأمم.. فهذا أعون على تثبيتها في العقول والقلوب..
· ولأن التاريخ كثيرا ما يعين على فهم الواقع الماثل، ولا سيما إذا تماثلت الظروف، وتشابهت الدوافع، وهذا ما جعل العرب قديما يقولون: "ما أشبه الليلة بالبارحة"، وجعل الغربيين يقولون: "التاريخ يعيد نفسه"، بل القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى كما في قوله: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم)(البقرة:118].
**حقائق ينبغي أن ينتبه لها الداعية***
1- أن يستخرج المغزى الأخلاقي للتاريخ، واتجاهات الأحداث فيه، وحصادها الناطق بلسان الحال؛ وأن يستنبط منه رؤوس العبر، ومواقع العظمة.. لا أن يستكثر من الجزئيات، ويسهب بالتفصيلات والوقائع.
2- أن يكون ذا وعي يقظ للوقائع التاريخية التي تخدم موضوعه، وتعمق فكرته، وتقدم لها الشواهد الحية.. وليس من اللازم أن يجد هذه الوقائع في كتب التاريخ المتخصصة، بل كثيرا ما يلتقطها بحسه الواعي من مصادر قد لا يلتفت إليها كثيرا رجال التاريخ، فقد يلتقطها من القرآن الكريم فيما قص علينا من أخبار الأمم، وقد يلتقطها من كتب الحديث والآثار.. وقد يلتقطها من بعض كتب الأحكام مثل كتاب "الخراج" لأبي يوسف، وكتاب "الأموال" لأبي عبيد، وقد يلتقطها من كتب الأدب، أو كتب الحسبة، أو كتب الرحلات، أو كتب الفتاوى.. أو غيرها.
3- أن يعني بسير الرجال، ومواقف الأبطال، وبخاصة العلماء، والدعاة، والمرشدون الربانيون، والأئمة المجتهدون.. وفي تاريخنا ثروة من السير تتمثل فيها الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، وتبرز الشخصية المسلمة مجسدة في مواقف وأعمال.. كما نلمس ذلك في كتب الطبقات والتراجم، ونجد ذلك في " سير أعلام النبلاء" ، و"وفيات الأعيان" ، و"طبقات ابن سعد" و"تهذيب التهذيب" و"حلية الأولياء" و"صفة الصفوة".
4- أن يهتم بربط الحوادث والوقائع بأسبابها وعللها المعنوية والأخلاقية، فالذي يطالع تاريخنا الإسلامي بعمق، ويتأمل سيره بدقة، يجد أن المد والجزر، والامتداد والانكماش، والنصر والهزيمة، والازدهار والذبول.. كلها ترتبط بمقدار صلة الأمة بالإسلام أو انفصالها عنه، وقربها من تعاليمه أو بعدها عنها، وحسبنا أن ننظر نظرة عجلى إلى عصر الراشدين، أو عصر عمر بن عبد العزيز، أو عصر الرشيد، أو عصر نور الدين وصلاح الدين.. لنرى تمسكا بالدين أو رجعة إليه، ونرى ثمارها عزا وازدهارا، والعكس بالعكس في عصور أخرى.
5- أن يكون محور التاريخ الإسلامي هو الإسلام نفسه دعوة ورسالة، وأثره في تربية الأجيال، وتكوين الأمة المسلمة، وإقامة الدولة الإسلامية، وبناء الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية، وتأثير الإسلام في العالم كله، وقدرته على الانتشار عند القوة، والمقاومة عند الضعف، واستطاعته التأثير في الناس ليعتنقوه عن رضى واختيار - كما تم ذلك مع السلاجقة والتتار - واختزانه أيضا كل أسباب الحيوية، وطاقات القوة لإمداد أمة الإسلام بروح الجهاد، وعنصر المقاومة.. لإثبات الذات، واستعادة المجد.
**وينبغي للداعية أن يركز على الحقائق التاريخية التالية:***
1- يجب إبراز الجاهلية العالمية والعربية بكل أفكارها، وتصوراتها، ودعواتها، وأساليبها.. بلا إفراط ولا تفريط.
ذلك أن النزعات التبشيرية والاستشراقية.. تريد أن تلبس الجاهلية الحاضرة لبوسا حسنا، مضخمة ما كان لها من حسنات، متغاضية عما عجت به من مثالب، وقد طرب لذلك القوميون، وخصوصا من العرب، فحرصوا على عرض الجاهلية العربية مبرأة من كل عيب.. كما يبدو ذلك في دراسة التاريخ والأدب، وما سمي "المجتمع العربي".. متجاهلين ما كان عليه العرب قبل الإسلام من فساد العقائد والأخلاق والأنظمة والتقاليد!
ورضي الله عن عمر الذي قال: "إنما تنقض عرا الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".. وهذا بشرط ألا يمس ذلك ما تميزت به أمة العرب، ولغة العرب، وأرض العرب.. من خصائص ومزايا رشحتها لحمل الرسالة الإسلامية الخالدة إلى الناس (الله أعلم حيث يجعل رسالته)[الأنعام:124].
2- ينبغي الاهتمام بحركات الإصلاح والتجديد في تاريخ الإسلام، وبرجال التجديد الذي يبعثهم الله بين حين وآخر ليجددوا لأمة الإسلام أمر دينها، كعمر بن عبد العزيز، ونور الدين الشهيد، وصلاح الدين، والشافعي، وابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، وحسن البنا.. وقد يكون المجدد فردا أو جماعة أو مدرسة إصلاحية، يبرز بها اتجاه في الإصلاح له سماته وخصائصه.
3- كما يجب الالتفات إلى دور الإسلام ورجاله وأثره في حركات المقاومة والتحرير التي ظهرت في العالم الإسلامي، منذ وطئت أرضه جيوش الاستعمار، فرغم المكر الصليبي، ومحاولات التخدير والتضليل.. لم يسلم الاستعمار من المقاومة الباسلة في كل بلد دخله، وأريقت الدماء، وسقط الشهداء تلو الشهداء.. ولم تزل المقاومة على مر الزمن حتى كان التحرير، وكان الإسلام وعلماؤه ودعاته وراء هذا الجهاد للاستعمار بريطانيا كان أو فرنسيا أو إيطاليا أو أسبانيا؛ كأمثال الشيخ ابن باديس في الجزائر، والشيخ عمر ا لمختار في ليبيا، والشيخ العربي الدرقاوي في المغرب، والشيخ عز الدين القسام في فلسطين.. ومئات غيرهم، وقد شهد بذلك مؤرخون غربيون مثل "برنارد لويس" في كتابه "الغرب والشرق الأوسط".
**وعلى الداعية أن يحذر في المجال التاريخي من أمرين هامين:***
· @أولا: أن يحذر الروايات التاريخية التي دونت بلا تمحيص ولا تحقيق:@@
فليس كل ما تحويه كتب التاريخ صحيحا تاما.. فكم حوت مراجع التاريخ من مبالغات وتشويهات وتحريفات تكذبها الحقائق الثابتة بالاستقراء أو بالموازنة بالأدلة الناصعة في مصادر أخرى؟!!
وكم لعبت الأهواء والعصبيات السياسية والدينية والمذهبية دورها في كتابة التاريخ وفي رواية وقائعه، وتلوين أحداثه، وتصوير أبطاله مدحا أو ذما، إيجابا أو سلبا! وخصوصا إذا علمنا أن التاريخ يكتبه عادة المنتصرون الغالبون، والغلبة لها بريق وأضواء كثيرا ما تعشى أعين المؤرخين عن سوءات الغالبين، في حين تضخم أخطاء المغلوبين، وتطمس فضائلهم عن قصد أو غفلة.
وإذا نظرنا إلى تاريخنا الإسلامي الذي يتعلق بأمثل عصور الإسلام وأفضلها وهو تاريخ العصور الأولى التي شهد لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية، والتي انتشر فيها الإسلام في الآفاق، وانتشرت معه لغته وفقهه، واتسع فيها تعلم كتابه وسنة نبيه، وهو تاريخ عصر الصحابة ومن تبعهم بإحسان.. إذا نظرنا إلى هذا التاريخ وجدناه قد ظلم وشوه في كتب التاريخ أي ظلم وتشويه؟!! ثم يجيء المعاصرون ليأخذوا من تلك الكتب بعجرها وبجرها، وبغثها وسمينها.. ويقولون: نحن لم نحد عن الطريقة العلمية الموضوعية، فمصدرنا فيما ننقل من نصوص تاريخية: الواقدي، أو الطبري، أو ابن الأثير.. نعزو فيما نأخذ إلى جزء كذا، صفحة كذا، طبعة كذا..
هكذا يصنع المستشرقون، وهكذا يفعل أساتذة التاريخ في الجامعات، وهكذا يسير الذين يكتبون عن التاريخ ممن يريدون أن يشوهوا تاريخنا الناصع، ويطعنوا بعظمائنا الأفذاذ.
كان لزاما على علماء الإسلام، ورجال الاختصاص، وأهل التحقيق.. في كل زمان ومكان.. أن يكلفوا أنفسهم في البحث عن النصوص التاريخية، والتحقق من أسانيدها، والعوامل السياسية التي أثرت فيها.. ولا سيما المطاعن التي سددت لجيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
وعذر الأئمة كالطبري وأمثاله في أمرين :
الأول : أنه يروي الحوادث بسندها إلى من رواها ، وقد قيل :" من أسند فقد حمل " وكان هذا مقبولا في زمنه لكثرة العلماء.
وقد قال الطبري نفسه في مقدمة تاريخه:" .. فما كان في كتابي هذا مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ، ولا معنى في الحقيقة فيعلم أنه لم يؤت من قبلنا ، وإنما أتي من قبل بعض ناقله إلينا ، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا .." ، وهكذا أخرج نفسه من العهدة وألقاها على القارئ.
والثاني : أنه لم يهتم بتمحيص ما روي؛ إذ موضوعه التاريخ ولا يترتب عليه حكم شرعي من تحليل أو تحريم أو غيرها .. وقد قال عن نفسه مسوغا هذا التساهل بقوله : " ... إذ لم نقصد بكتابنا هذا الاحتجاج" يقصد الاحتجاج للأحكام.
@الأمر الثاني : الحذر من التفسيرات المشوهة للتاريخ@@
في عصرنا اليوم الذي هو عصر الأهواء والعصبيات والتيارات الفكرية يتعرض تاريخنا الإسلامي لتفسيرات مشوهة مغرضة من قبل أناس قلبوا الحقائق، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وإليك - أخي الداعية - نماذج من هذا القلب والتشويه:
@فالمستشرقون والمبشرون..@@ حين يبحثون في التاريخ يخدمون به فكرة بيتوها عن محمد صلى الله عليه وسلم ودينه وأصحابه، فمحمد صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء ليس برسول الله، والإسلام ليس بدين الله، وأصحابه ليسوا إلا عصابات من المغامرين المتنافسين على الدنيا، المتعطشين لإراقة الدماء، المكرهين الأمم بالقوة على الإسلام.. لا يعتقدون بدين سوى اليهودية والنصرانية، أما الإسلام في زعمهم نسخة محرفة منهما، وتعليم بشر، حتى الحضارة الإسلامية فإنها طبق الأصل عن حضارة اليونان والرومان.. (ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون)[التوبة:30].
وفي سبيل هذا يغفلون أحداثا قيمة، ويضخمون أحداثا تافهة، ويعتمدون أخبارا ضعيفة أو مكذوبة، يتصيدونها من أي كتاب، ولو كان كتاب "الأغاني" للأصفهاني. ويوجهون هذا كله توجيها مغرضا مسموما يؤيد اعتقادهم السابق عن الإسلام وكتابه ورسوله وأصحابه وأمته.. كأمثال المبشرين: جرجي زيدان، وفيليب حتى، وسلامة موسى..
@والماركسيون الشيوعيون@@.. يفسرون التاريخ - وفقا لفلسفتهم المعروفة - تفسيرا ماديا طبقيا، ويحاولون أن يطبقوا ذلك على نشأة الإسلام وظهوره، ويسفون في ذلك غاية الإسفاف، ويحملون الوقائع والأحداث ما لا تحتمل، ويقسمون الصحابة - رضي الله عنهم - إلى يمين ويسار، ويديرون صراعا موهوما بينهم..
وكثير من كتاب المسلمين أنفسهم - ويا للأسف - يخلعون على حوادث التاريخ، ومواقف رجاله ما عرفوه وخبروه من ألاعيب السياسة، ومواقف رجالها في هذا.. ويتخيلون العلاقة بين عمر وخالد، أو بين عثمان وعلي، أو بين علي ومعاوية وطلحة والزبير - رضي الله عنهم جميعا - من أمثال العلاقة بين الطامحين والطامعين من رجالات الأحزاب، وتجار السياسة في عصرنا، ويفسرون المواقف والأحداث تبعا لهذا التصور الظالم، والمتجني على هذا الجيل المثالي الذي لم تكتحل عين الدنيا برؤية مثله، بل عقمت أم التاريخ أن تلد جيلا مثل هؤلاء!!
@والقوميون من العرب@@.. يوجهون التاريخ الإسلامي كله وجهة قومية بحتة، فالإسلام في نظرهم انتفاضة عربية أو وثبة من وثبات العبقرية.. ورسول الإسلام - صلوات الله وسلامه عليه - بطل قومي، جادت به أمة العرب على الإنسانية!!
فمن الطبيعي بعد هذا التفسير المشوه للتاريخ أن يغدو أبطال الإسلام، وعلماؤه، ورجالاته الكبار على مدار الزمن في نظر هؤلاء أبطالا عربا، وأن تسمى الحضارة الإسلامية أيضا "حضارة عربية".. وذلك لقطع الصلة بين العرب وبين الإسلام.. علما بأنه لولا الإسلام لما كان للمسلمين في التاريخ بطولات ولا حضارة ولا أمجاد.. ورحم الله الفاروق عمر أمير المؤمنين القائل فيما رواه الحاكم: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام؛ فمهما ابتغينا العزة بغير الإسلام، أذلنا الله".
فعلى الداعية أن يحذر مثل هذه التشويهات والتفسيرات للتاريخ الإسلامي، بل عليه أن يحذر الجيل المسلم من أن يقعوا في شراكها، ويتأثروا بمفاهيمها..