الزوجة الثانية !!!

0 1362

إن النفوس البشرية عالم غامض لا يعرف كنهه إلا الله تعالى، وتختلف كثيرا فيما بينها، وتتغير هي نفسها من وقت لآخر، ولا تثبت على حال.. تدخل عليها أشياء جديدة، مشاعر جديدة، آراء جديدة.. كل ذلك مرهون بتعاملات البشر المحيطين، وظروف الزمان والمكان.
إن الحياة حول الناس تتغير فتتغير تبعا لذلك ردود أفعالهم، وتختلف استجاباتهم، إنها الحياة الدائمة التغير المستمرة الحركة، ولا يدري بأمر هذا التغير الداخلي في النفوس إلا خالقها وحده سبحانه وتعالى.
هذه النفوس البشرية التي يتأبى على غير الله تعالى فهمها. (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)[البقرة:235]، (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)[الملك:13، 14].
هذا الخالق العظيم العالم بدقائق الخفايا وصغائركل النفوس وأدق الهواجس هو أيضا الرحيم بخلقه، الكريم بفضله، المتفضل دائما بسابغ نعمته. (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)[النساء:28]، (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)[البقرة:286].
وهو سبحانه لا يكبت النفوس المسلمة كبتا، ولا يضيق عليها الخناق، وهو لرحمته الإلهية لا يجعلها تحيا حياتها أسيرة اختيار قد يخطئ وقد يصيب وقد يجد عليه من ظروف الحياة ما يجعله خيارا يستلزم التعديل كله أو بعضه .
وخيار الزواج خيار خاضع في أغلبه لهذه النفس البشرية التي تختلف من شخص لآخر وأيضا من وقت لآخر، ومن ظرف لآخر.
وقد يختار الزوج ويفرح بخياره أول الأمر ثم تبدو في حياته ظروف لا يعلمها إلا الله وحده، فإذا هو في صراع نفسي وصدام داخلي بين اختيار هو واقعه المعاش، وبين أمر آخر تميل إليه نفسه أو يفضله في داخله الشعوري، فإذا هو يريد أن يقبل على الزواج مرة أخرى، والزواج الثاني في الإسلام خيار لم يحرم ، ولم يشجبه الإسلام أو يعتبره نقيصة أو ذريعة للازدراء.
إن الزواج الثاني هو أحد مظاهر الرحمة الإلهية الكبيرة بهذه النفوس المسلمة، من مظاهر رحمته تعالى بالزوجين الرجل والمرأة، وبالمرأتين الأولى والثانية.
والخيارات المتسعة للمسلم في الحياة هي منافذ الرحمة تتدارك المسلم وقت الضيق لتنتشله من الأزمة، وتغدق عليه من الرقة والهناء ما يضمن له الهدوء والهناء النفسي.
ولننظر إلى هذا البيت المسلم الذي خلا من بسمة الصغير ولهو فلذة الكبد! هل يبقى هكذا مظلما كئيبا مدى الحياة؟! هل يقضي الزوج حياته حتى تذوى دون أن تحمل يداه طفلا أو تداعب أنامل الصغير الرقيقة شفتيه ووجهه؟
كثيرون وكثيرات يسارعون إلى الصياح والاستنكار، ليتزوج إذن، ولكن ليطلق الزوجة الأولى حتى لا يجرح شعورها أو يحطم نفسيتها، أو يعاقبها بذنب لا يد لها فيه.
ونعود إلى كرم الرحمن وفضله، فنسأل: وهل من العدل في نظر العقل أو العاطفة أن يلفظ الرجل زوجته الأولى والتي هي في أغلب الأحيان صاحبة الحيز الأكبر من عواطفه ومشاعره وشريكته في أطول فترات حياته لمجرد تحقيق أمله الفطري في أن يصبح أبا ؟!
هل من الرحمة أن يدعها وحيدة تعاني حرمانا من نعمة الإنجاب يختبرها الله تعالى به. ثم يزيد هو معاناتها بالوحدة والانفصال النهائي، فيقطعها عن البيت الذي عاشت فيه أحلى وأجمل سنوات عمرها، وينزعها من جوار زوجها الذي تحبه ويعزلها عن البيئة التي غدت جزءا من كيانها النفسي والاجتماعي؟!
إن الزوجة المسلمة المؤمنة بقضاء الله وقدره، حلوه ومره؛ لتدرك أن زوجها الذي صبر معها سنين طويلة وشاركها السعي عند الأطباء، وقاسمها ألم الانتظار والشوق، تدرك أنه زوج كريم الأصل، يحفظها في قلبه ووجدانه، وتدرك كذلك أن فطرة الله تعالى لها ضغط ولها تأثير كبير وإن أخفاه حرصا عليها، فلماذا حين يفتح الله تعالى لزوجها بابا لتحقيق حلمه والتفضل عليه بفرحة الوليد، تقوم هذه الزوجة بطلب الطلاق؟!
إن من رحمة الله تعالى أنه لم يحرم هذه الخطوة، خطوة الزواج الثاني، لكنه أيضا لم يشترط لها طلاق الزوجة الأولى حتى لا يهدم بيت دعائمه الحب والإخلاص والتواد والتماسك ليقوم بيت ثان على أنقاضه فلا يستفيد المجتمع بقدر ما يتألم بعض أفراده.
إن الكثير الذين يتصايحون اليوم حرصا على ما يزعمون من مشاعر الزوجة الأولى.. وكرامتها هم أعدى أعدائها، فالله سبحانه وتعالى أرحم بها منهم.. وأرحم بها من نفسها التي بين جنبيها. وإن الواقع من حولنا ليشهد وجود زوجات مؤمنات أقدمن على اختيار زوجة ثانية لأزواجهن حتى لا يعنتوا عليهم ويحملوهم فوق ما يطيقون، وليسعدن كذلك بتربية وليد صغير يعطي لحياتهن امتدادا جديدا ، وقوة دافعة....
إن وزن الأمور كلها بمقياس الحلال والحرام يجعل المؤمن يعيش حياة هانئة تخلو من كل مشاعر الغيظ والحنق أو الثورة والهم. يقول تعالى للمؤمنين: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم)[البقرة:216]، (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)[النساء:19].
وكأن الله سبحانه وتعالى يريد من المؤمن أن لا تكون مشاعره وأهواؤه هي دافعه الأول، أو مرجعه عند الخيار، فالله يصرف له ما في صالحه الوقتي والمستقبلي معا ،حتى لو بدا له في وقتها أن الأمر ليس كذلك، فقد تكره الزوجة الأولى فكرة الزواج الثاني، لكن قد تكون هذه الخطوة هي الخير العميم الذي يخبئه الله لها، وحين تتلو المؤمنة تلك الآيات ترمي بهواجس الشيطان بعيدا، وهمسات من لا يعلمون خلف ظهرها، وتكتفي بالله تعالى: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون)[البقرة:216]؛ فإذا النفس تهدأ، والقلب يطمئن إلى قدر الله، وإذا باب عريض لأمل كبير يفتح على مصراعيه ويغمر هذا الأمل النفس المطمئنة الراضية فتقول: "قد يكون هذا الزواج هو الابن الذي لم يحمله رحمي أو يتغذى من دمائي. قد يكون هذا الصغير هو اليد التي تعينني إذا تعبت، وترفعني إذا تعثرت قدماي، ربما هو اليد الحانية التي ستمسح الأحزان، وتفرح القلب، وتعوض النقص، وتسد العوزاء. ربما هو الرحمة المهداة التي يسوقها الله إلي.. ولكن تعميمها على الآن حجب الشيطان!
ويعلو صوت يستنكر ذلك متظاهرا بالرقة، والرحمة والحنان : أي ألم رهيب يسببه الزواج الثاني للزوجة الأولى ، أي ضغط عصبي وقسوة لا متناهية تتعرض لها، أي معاناة!!

ونتلفت جميعا حولنا، هل تخلو الحياة من أي صورة من صور المعاناة؟! هل تمضي حياة أي إنسان كائنا من كان دون صعوبة أو مشاق؟!
قد لا يتزوج الزوج، لكنه يكون من سوء الخلق وسوء العشرة حتى ليتنقل من عشيقة لأخرى تحت سمع الجميع ووسط همس الأقارب، ورغم نيران الاستنكار والكره التي تنهش زوجته.
وكم هن كثيرات من يعشن هذه الحياة ويتحملنها لمختلف الأسباب، بل إن بعضهن قد يكافئها زوجها (بالإيدز) في نهاية المطاف، فتقضي دون أن يهتم بها أحد؟!
قد تسير الحياة كما هي ويتزوج الرجل دون أن يخبر زوجته وينجب ويخفي عنها أنه أب، ويتركها تعطيه ما اعتادت من حنان وعطف وموالاة، بينما هو قد انفصل عنها بعالم مختلف جديد يمتلأ بصراخ الطفل أو الأطفال، بينما قد يكون إشراكها معه في البداية باختيار الزوجة الثانية، مانعا للكثير من المشاكل التي تبرز في مستقبل الأيام.
قد يكون الزوج متزوجا قبلها ولم يخبرها ولا هي عرفت ذلك، فماذا لو كانت هي الثانية وتظن نفسها الأولى؟!
أليس ما سبق صور بسيطة لمعاناة نفسية حقيقية يحياها الكثير من النساء، وتمضي حياتهن دون أن يتباكى عليهن أحد؟!
لعل بكاء وعويل هؤلاء المتباكين يتجه إلى الزوجة التي تحترق كل ليلة، وزوجها مع العشيقات، فهذه الزوجة أولى بالبكاء وأولى بالعويل!

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة