البغي والمكر .. والعقوبة المعجلة

0 1458

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد...
فالسنن لا تعرف المحاباة ولا المجاملات: (ولن تجد لسنة الله تبديلا) "الأحزاب:62"، ( ولن تجد لسنت الله تحويلا) "فاطر:43". والشرع لا يفرق بين المتساويين ولا يساوى بين المختلفين، وهلكة الماكر والباغي والناكث مسألة وقت، فالزمن جزء من العلاج، ولا يصح أن تهتز الثوابت والمعايير، قال محمد بن كعب القرظي: "ثلاث خصال من كن فيه كن عليه: المكر (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) "فاطر:43"، والبغي (إنما بغيكم على أنفسكم)"يونس:23". والنكث { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} [الفتح: 10]".

من أسباب الدمار

فهذه الخصال من أسباب دمار أهلها، والعلاقة وثيقة بين الأسباب والمسببات والمقدمات ونتائجها، أعمالكم عمالكم قال تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون) "الجاثية:15"، وقال: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) "الإسراء:7".. وفي الحديث: "واعمل ما شئت فإنك مجزى به" وصح في الخبر: "ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

أتى رجل لأحد العلماء يقول له: "إن بنى فلان قد تواطؤوا علي وصاروا يدا واحدة، فقال: (يد الله فوق أيديهم)، قال: إن لهم مكرا، قال: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)، قال: هم فئة كثيرة، فقال له العالم: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله).

مكر الكافرين يدمرهم

وأنت حين تشتهى الخلاص من الكافرين والفاجرين، ثق تماما أن مكرهم وبغيهم ونكثهم سيدمرهم تدميرا، فهم في واقع الأمر وحقيقته يهلكون أنفسهم بأنفسهم قبل أن يصل إليهم سلاحك وما يعود وبال هذه الخصال السيئة إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم، قال تعالى: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) "آل عمران:54"، وقال: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) "الأنعام:123".

المكر ينقلب على صاحبه

وقص علينا القرآن صورة من مكر ثمود بنبيهم صالح، قال تعالى: (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين) "النمل:50- 51".. قيل في تفسيرها: وهم لا يشعرون بالملائكة الذين أنزل الله على صالح ليحفظوه من قومه حين دخلوا عليه ليقتلوه، فرموا كل رجل منهم بحجر حتى قتلوهم جميعا وسلم صالح من مكرهم،.. وقيل: "إنهم مكروا بأن أظهروا سفرا، وخرجوا فاستتروا في غار ليعودوا في الليل فيقتلوه، فألقى الله صخرة على باب الغار حتى سده،، وكان هذا مكر الله بهم".

وقد مكر المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) "الأنفال:30" لقد أنجى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وخرج سالما من بين ظهرانيهم مهاجرا إلى المدينة، وقتل صناديدهم يوم بدر، كأبي جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة... وأدخل الله عليهم الإسلام يوم فتح مكة، ومات صلى الله عليه وسلم يوم مات وقد نصره الله عليهم وأمكنه منهم، ورفع الله له ذكره وأعلى له أثره.

وكذلك مكر المنافقون به، قال تعالى: ( والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور) "فاطر:10"، لقد كان مآل مكرهم الفساد والبطلان، وظهر زيفهم لأولى البصائر والنهى، فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى رداءها، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشر.

ومكر يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم قتله، وتآمرهم مع المشركين عليه كثير معلوم، فكان أن قتل بعضهم وأجلى آخرين، وظهر أمره صلى الله عليه وسلم، وقرب قيام الساعة يستنطق الحجر والشجر لأمته، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود، ويفتح الله لهذه الأمة بيت المقدس.
فاحذر المكر ولا تنبهر بأهله، فعن قيس بن سعد بن عبادة- رضى الله عنهما قال: لولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المكر والخديعة في النار" لكنت من أمكر الناس ". (صححه الألباني).

معنى مكر الله تعالى

ولا يخفي عليك أن المكر الذي وصف الله به نفسه على ما يليق بجلاله، ومعناه مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شئ، ومنه أحسن شئ، لأنه عدل ومجازاة، وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه، فلا أحسن من ذلك المكر وتلك المخادعة..

والبغي أيضا
وإذا كان المكر السيئ وباله على صاحبه، فكذلك الأمر بالنسبة للبغي، وهو أسرع الجرم عقوبة، قالوا: من سل سيف البغي قتل به، وعلى الباغي تدور الدوائر، والبغي يصرع أهله.
فالبغي مصرعه وخيم، ومن حفر بئرا لأخيه سقط فيه، فاهجروا البغي فإنه منبوذ. قال ابن عباس- رضى الله عنهما: "لو بغى جبل على جبل لجعل الله- عز وجل- الباغي منهما دكا".. وقال أيضا: "تكلم ملك من الملوك كلمة بغي وهو جالس على سريره فمسخه الله- عز وجل- فما يدرى أي شئ مسخ ؟ أذباب أم غيره؟ إلا أنه ذهب فلم ير".

وقال عبد الله بن معاوية الهاشمى: "إن عبد المطلب جمع بنيه عند وفاته، وهم يومئذ عشرة وأمرهم ونهاهم وقال: "إياكم والبغي، فوالله ما خلق الله عز وجل- شيئا أعجل عقوبة من البغي، ولا رأيت أحدا بقي على البغي إلا إخوتكم من بنى عبد شمس".
قال ابن القيم: "سبحان الله، في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقبح هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبى جهل.. وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك .
نصوص تذم البغي
وقد وردت النصوص تذم البغي بغير الحق قال تعالى: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم) "الشورى:42".
والبغي هو الاستطالة على الناس، وهو الكبر والظلم والفساد والعمل بالمعاصي، وهو من الأمور الخمسة التي وردت الشرائع بالنهى عنها، وهى المذكورة في قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) "الأعراف:33".
ويكفي من بغي عليه، وعد الله بنصرته، قال تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله ) "الحج:60".. وفي الحديث: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم". (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح).
وورد عنه صلى الله عليه وسلم: "ليس شئ أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم، وليس شئ أعجل عقابا من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة تدع الديار بلقع" "أي لا شئ فيها". ( رواه البيهقي وصححه الألباني). وفي الحديث: "إن الله أوحى إلي أن توضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد". ( رواه مسلم) .

في قصص الغابرين عبرة
وانظروا في قصص البغاة قديما وحديثا ستجدون تطابقا بين صفحات الكون المنظور والكتاب المسطور:
فهذا فرعون بغى في الأرض بغير الحق وأدعى الربوبية والألوهية، وقال: "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتي"، وحاول اللحاق بنبي الله موسى ومن آمن معه من بنى إسرائيل، وأتبعهم بجنوده بغيا وعدوا، فأطبق عليه البحر وأجراه سبحانه من فوق رأسه جزاء وفاقا، ورآه المصريون جثة منتنة بعد أن كانوا يعبدونه من دون الله: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية).

وكذلك حكى القرآن قصة بغي قارون، قال تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم) وكان من جملة ما نصحه به الناصحون، أن قالوا له: (ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) "القصص:77"، فلم يرفع قارون بذلك رأسا، فأهلكه سبحانه، وانتقل إليه غير مأسوف عليه: (فخسفنا به وبداره الأرض).

إن بغي الأمم الهالكة على الأنبياء والمرسلين فيه عظة وعبرة لأولي الألباب، وقد أخذهم سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر، وسارت الأيام والليالي بقوم نوح وعاد وثمود وبقرون بين ذلك كثير، فأسلمتهم إلى ربهم وقدمت بهم على أعمالهم: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أوتسمع لهم ركزا) .

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة