زحـام المحـبة

0 945

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد..
فهل من الممكن أن ترتفع الهمة ونزاحم الأفاضل في محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه المحبة التي أورثتهم صدق المتابعة، وبذلك كانوا سادة وقادة، ودانت لهم الممالك، وفتحوا قصور كسري وقيصر، وهل من الممكن أن نتجاسر ونردد ما قاله أبو مسلم- رحمه الله- "أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا، فوا لله لنزاحمنهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم قد خلفوا ورائهم رجالا". وأبو مسلم الخولاني كان مجاب الدعوة، وهو من أكابر التابعين، وقد صنع الله به مثل صنيعه بنبي الله إبراهيم، فقد أضرم الأسود العنسي له النيران باليمن، وقذفه فيها، فكانت النار بردا وسلاما عليه.. وكان الأسود قد أدعى النبوة، وسأل أبا مسلم: أتشهد أن محمدا رسول الله قال له: نعم، فقال: أتشهد أنى رسول الله فقال أبو مسلم: لا. فصنع له هذه النيران، فلما نجاه الله منها قال أهل المملكة للعنسي: إنك إن تركت أبا مسلم في بلادك، أفسدها عليك، فأمره بالرحيل، فوصل أبو مسلم المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو مسلم لا يجالس أحدا يتكلم في شئ من أمر الدنيا إلا تحول عنه، وكان يقول: إن لكل ساعة غاية، وغاية كل ساعة الموت فسابق ومسبوق.
وكانوا لربما أرادوا الغزو فيقول لأصحابه أجيزوا بسم الله، يعني فوق الماء، من ذهب له شئ فأنا له ضامن، فإذا وقعت مخلاة، أحدهم وجدها معلقة بأعواد النهر، وكان الصبيان يسألونه أن يحبس الطير عليهم، فيدعو الله فيحبسه عليهم.

لقد رفض أبو مسلم أن يستأثر الصحابة الكرام- رضى الله عنهم أجمعين- برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يزاحمهم في محبتهم له صلوات الله وسلامه عليه - لقد أدرك معنى المنافسة الشريفة وأنه لا إيثار في القرب والطاعات، وأن السبق سبق الفضل والصفات، وأن من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، وكما قالوا: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا، فنافسه في الآخرة، وإن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
ولقد علت همة القوم فكانت هذه هي غيرتهم ومنافستهم، وانحطت همة آخرين فصار التنافس على المناصب والمال والجاه والسلطان وتبع ذلك صور الغل والحقد والحسد. كان حاتم الأصم يقول: رأيت الناس يعودون إلى التجارات والحرف والأنساب والأموال ونظرت في قوله تعالى ) إن أكرمكم عند الله أتقاكم ( "الحجرات:13" قال: فعملت بالتقوى حتى أكون كريما عنده، ولم يقل سبحانه إن أكرمكم عند الله أقواكم أو أجملكم أو أكثركم عشيرة.

وهذه الأمة رغم تأخرها في الزمان عن الأمم السابقة، إلا أنها خير أمة أخرجت للناس كما قال تعالى: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( "آل عمران:110".. لقد كان أبو مسلم صاحب فقه وبصيرة وهمة عالية أدرك الباب الذي منه يدخل، وكيف يحوز الفضل بكلتا يديه، وعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم.. لقد التف الأفاضل حول النبي صلى الله عليه وسلم يفتدونه بالغالي والرخيص ويقدمونه على الأهل والمال بل وعلى أنفسهم، فهذا أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- يرى عقبة بن أبى معيط- أشقى القوم- وقد خنق النبي صلى الله عليه وسلم بطرف ردائه وهو ساجد أمام الكعبة، فيحل وثاقه، ويقول: "أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم"، فيترك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وينهالون ضربا على أبي بكر حتى أغمى عليه، وسقطت غدائره، فلما أفاق قال تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ماذا فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما قال له عمر - رضى الله عنه - يوم الحديبية علام نعطي الدنية في ديننا، أولسنا على الحق، أوليس رسول الله حقا، فقال له أبو بكر: الزم غرزه فإنه على الحق.. وجاءه المشركون يوم الإسراء يقولون له: إن صاحبك يزعم أنه قد عرج به إلى السماء، فما زاد على قوله: إن كان قال فقد صدق، فوالله إني لأصدقه في أكثر من ذلك، أصدقه في خبر السماء.. ثم يوم الهجرة جعل أبو بكر يتذكر الرصد فيمشى أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ويتذكر الطلب فيتحول خلفه، ويسيرعن يمينه تارة وعن شماله تارة أخرى، كل ذلك مخافة أن يصاب النبي صلى الله عليه وسلم بأذى، ولما دخل الغار جعل يسد الشقوق بيديه ورجليه وثوبه ويقول: إن أهلك أهلك وحدي وإن تهلك تهلك معك الدعوة.. وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب، فانتصب أبو بكر يقول: أينقص الإسلام وأنا حي، ولما راجعه البعض في إنفاذ بعث أسامة، قال: والله لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين ما حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما قبض على خبيب بن عدى سألهم أن يصلى لله ركعتين ثم علقوه على الخشب لقتله، فقال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو ولا أرى وجه أحد يقرئ رسولك مني السلام، فأقرأه مني السلام، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءه وقال: هذا جبريل أتاني يقرئني من خبيب السلام، فهذا رجل همه في لحظاته الأخيرة أن يبعث بسلامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ما يطلبه أهل البطالة.

وكان زيد بن الدثنة معه في رحلة الدعوة، قبض عليه المشركون وخرجوا به إلى التنعيم لقتله، فسأله أبو سفيان: أما تحب يا زيد أنك في أهلك وولدك، ومحمد هنا تضرب رقبته، فقال له زيد: والله ما أحب أنى في أهلي وولدي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه يشاك بشوكة، فقال أبو سفيان وكان يومئذ مشركا: فوالله ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد لمحمد صلى الله عليه وسلم.

ولما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فتقدم أنس بن النضر وتبرأ إلى الله مما جاء به المشركون، واعتذر إليه سبحانه مما فعله أصحابه، وسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فقال: علام الحياة بعده، قوموا فموتوا على مثل ما مات عليه، وهى كلمة تنقش على القلوب، وتصلح منهاجا للحياة وتعبيرا عن المحبة التي تورث الاتباع الصادق.
وكان مصعب بن عمير صاحب اللواء يوم أحد، قطعت يده اليمنى ثم اليسرى، فأمسك اللواء بعضديه، فأنفذه ابن قميئة بحربة، فوقع وهو يقول: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين".

إن المحبة والانقياد والاتباع والوفاء معان لا تقتصر على الحياة دون الممات، وهذه المحبة لم تقتصر على الرجال دون النساء، فقد يأتي المرأة خبر وفاة أبيها وأخيها وزوجها فتسأل ماذا فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا اطمأنت على حياته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (آي هينة) ولما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة ليزيد في هدنة الحديبية دخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين، فطوت فراش النبي صلى الله عليه وسلم دونه، فقال يا بنية أرغبت بهذا الفراش عنى أم بي عنه، فقالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال: لقد أصابك بعدى شر.

إن الصحابة خيار أولياء الله المتقين، وكل صحابي أفضل من كل من جاء بعده، ويكفيهم شرف الصحبة- رضوان الله عليهم أجمعين، والرجولة الحقة أن نحاول اللحاق بهم ونحرص على مزاحمتهم في محبتهم لرسول الله، ولذلك قال أبو مسلم: "لنزاحمنهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم خلفوا ورائهم رجالا"، وهذه الرجولة المذكورة هي وصف من علت همته واستقامت طويته وسابق الريح في مرضاة ربه، وهى الواردة في مثل قوله تعالي: )من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا( ) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار( ) فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين(.

لقد صار كثير من أبناء المسلمين حربا على إسلامه وعلى دينه يستهزئ باللحية والنقاب وبتقصير الثوب وبأحكام السلام، والبعض إذا ما ذكر السنة فعلى جهة الاستخفاف وكأنها الأمر المستحب الذي لا يؤبه له ولا قيمة له!! والبعض علاقته بالإسلام عبارة عن الاحتفال بالمولد النبوي وسائر الأعياد المبتدعة المخترعة يصنع ذلك تارك الصلاة والمتبرجة ومن يحكم بغير ما أنزل الله، بل فريق من المسلمين يرى قضية التدين مسألة اختيارية!! وبينما نرى التوقير والاحترام لقول الاقتصادي العالمي، والطبيب المشهور، نجد الاستهانة بهدى النبي صلى الله عليه وسلم مع إدعاء المحبة، ولهؤلاء نقول: ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله( فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، والمحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجب عليه أن يقتفي آثاره قولا وعملا.

قال تعالى:) يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون(.. إن رفع الصوت على هدى النبي صلى الله عليه وسلم حال حياته أو بعد وفاته من محبطات الأعمال، فهل تأدبنا بأدب النبوة، وهل تأسينا بسلفنا الصالح في محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم أنها شعارات تحتاج لواقع ورصيد، بحيث يقال لأهلها:)قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين(.

**اتبعوا ولا تبتدعوا***
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دائما يحذر من البدع ويقول: "إن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وقال عمر - رضى الله عنه- كل محدثة بدعة وإن رآها الناس حسنة "، وقال بن مسعود - رضى الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم عليكم بالأمر العتيق"، وقال الشافعي - رحمه الله:" من استحسن فقد شرع".. ولم يسمح ابن عمر - رضى الله عنهما - للرجل الذي عطس، أن يتجاوز السنة بقوله: "الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله" فقال ابن عمر - ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا عطس أحدكم فليحمد الله، ولم يقل وليصل على رسول الله"... هكذا كانت محبة القوم، وهكذا كانت حيطتهم لعدم خدش جناب التشريع، والخير كله في اتباعهم عسى أن يغير ربنا حالنا لأحسن الأحوال وأن يمكن لنا ديننا الذي أرتضى لنا وأن يبدلنا من بعد خوفنا أمنا هو سبحانه ولى ذلك والقادر عليه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة