ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه...أو كالذي مر على قرية

0 2296

الآيتان الكريمتان -عنوان المقال- وردتا في سياق الاستدلال العقلي والعملي على وجود الخالق سبحانه وتعالى؛ إذ بينتا وأكدتا أنه سبحانه هو المتصرف الأول والأخير في خلقه، وأنه لا أحد من خلقه يملك لنفسه - ومن باب أولى لغيره - نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. فالأمر إليه من قبل ومن بعد، كما أخبر عن نفسه سبحانه بقوله: {لله الأمر من قبل ومن بعد} (الروم:4) وقال أيضا: {ألا له الخلق والأمر} (الأعراف:54).

في الآية الأولى نقرأ قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} (البقرة:258) هذه المحاجة التي جرت بين إبراهيم عليه السلام، وبين ذاك الملك الذي ادعى القدرة على الخلق والإيجاد، والإماتة والإعدام، فطلب منه إبراهيم دليلا على دعواه، بأن يأتي بالشمس من المغرب، خلافا لما جرت عليه السنن الكونية، فلم يستطع لذلك جوابا، وأسقط في يده؛ وأقام عليه إبراهيم الحجة البالغة، مبينا له أن ما ادعاه في دعواه، ليس له فيه من الأمر شيء، بل ذلك لله وحده، لا ينازعه في ذلك أحد من خلقه مهما أوتي من قدرة وسلطة ومكانة.

ثم تأتي الآية الثانية، وهي قوله تعالى: {أو كالذي مر على قرية} (البقرة:259) تأكيدا وتوكيدا لسابقتها، لتبين أن أمر الحياة والموت ليس شأنا من شوؤن العباد، ولا خاصية من خواصهم، بل مرجع ذلك لله وحده، لا شريك له في ذلك، ولا منازع له في حكمه وأمره.

وقد وضحت الآية الثانية تلك الحقيقة بمثال حسي لا يختلف في حقيقته ومضمونه عن المثال في الآية السابقة؛ فقوله سبحانه: {أو كالذي مر على قرية} نظير الذي عنى بقوله سبحانه: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} ففي كلا المثالين تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، من أمر من يدعي خاصة من خصائص الألوهية والربوبية، وفيهما تبيان أن سر الحياة والموت هو من أمر الله وحده، وليس لأحد غيره في ذلك من شيء. 

وقد قال أهل التفسير هنا: قوله سبحانه: {أو كالذي مر على قرية} عطف على قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} وإنما عطف قوله: {أو كالذي مر على قرية} على قوله: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما؛ لأن قوله: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} بمعنى: هل رأيت، يا محمد، كالذي حاج إبراهيم في ربه؟ ثم عطف عليه بقوله: {أو كالذي مر على قرية} قالوا: لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه، وإن خالف لفظه لفظه. 

ثم ليس ثمة فائدة هنا من الخوض في الخلاف الذي ذكره بعض المفسرين حول اسم ذلك الملك الذي حاج إبراهيم في ربه، ولا في اسم ذلك الشخص الذي مر على تلك القرية الخاوية على عروشها؛ إذ ليس في ذكر شيء من هذا كبير فائدة، ولو كان فيه فائدة لذكره القرآن، ولما سكت عنه، وإذ لم يذكره دل على أن المقصود من ذلك هو أمر أهم، ومقصد أولى بالاعتبار والالتفات إليه.

ثم إن هاتين الآيتين تقرران -إلى جانب حقيقة الموت والحياة وردهما إلى الله سبحانه- حقيقة ثانية، وهي حقيقة طلاقة المشيئة، التي يعنى القرآن عناية فائقة بتقريرها في قلوب المؤمنين، لتتعلق بالله مباشرة، من وراء الأسباب الظاهرة، والمقدمات المنظورة. فالله تعالى فعال لما يريد. ولهذا ختمت الآية الأولى بقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين} وهذا كقوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص:56). وكذلك ختمت الآية الثانية، بقول ذاك الرجل الذي مرت به التجربة: {أعلم أن الله على كل شيء قدير} فكانت خاتمة الآيتين تقريرا لحقيقة المشيئة الإلهية، وأنها مشيئة خاصة به سبحانه وتعالى، دون أن يعني ذلك سلب الحرية عن الإنسان بحال.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة