- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:محاسن الأخلاق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فإن الله تعالى خلق الإنسان وتكفل برزقه، قال عز وجل: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) [الذاريات:22] ، وقال تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) [هود:6].
ومن طبيعة البشر أنهم إذا وسع عليهم في الرزق بالغوا في النفقة بما يصل بهم إلى حد الإسراف. وقد بين الله عز وجل أن هذه هي طبيعة الإنسان؛ فقال: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير) [الشورى:27]، وقال: (كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى) [العلق:6، 7].
ولما كانت شريعة الإسلام قد أتت بكل ما يصلح العبد ويضمن له السعادة في الدارين فقد أمرت هذه الشريعة السمحاء أبناءها بالقصد في الأمور كلها، ومنها أمر النفقة.
معنى الاقتصاد:
إننا نقصد به التوسط بين آفتين عظيمتين هما التقتير والتبذير، فلا يكون العبد ممسكا بخيلا على نفسه وأهله، مانعا الإحسان عمن يحتاج إليه، ولا يكون مبذرا مسرفا مضيعا ما أنعم الله به عليه من نعمة المال في غير حقه، قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) [الإسراء:29].
الحث على الاقتصاد في القرآن والسنة:
نظرا لأن هذه الشريعة لا تصادم الفطرة السوية فقد لبت حاجات الناس التي لابد لهم منها، وأباحت الانتفاع بالطيبات والتوسعة على النفس والأهل، بل والناس كذلك لكن من غير إسراف ولا تبذير، قال الله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) [الأعراف:31]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة".
إن دعوتنا إلى الاقتصاد في المعيشة والنفقة ليست دعوة إلى تحريم ما أحل الله من الطيبات: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) [الأعراف:32]؛ لكنها دعوة إلى التوسط والاعتدال الذي هو سمة هذه الأمة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) [البقرة:143].
الاقتصاد طريق النجاة:
نعم إن رسولنا صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن من المنجيات "القصد في الفقر والغنى"، ولهذا نهانا عن إضاعة المال الذي جعله الله لنا لنعف به أنفسنا ونحفظ به وجوهنا ونستغني به عن مد يد الحاجة إلى الناس: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) [النساء:5].
إن الأفراد والدول الذين لا يجدون المال ويعيشون حياة الفقر والحاجة لا يحترمهم الآخرون. وإن من أعظم الوسائل لحفظ هذه النعمة – نعمة المال – الاقتصاد في النفقة والاعتدال في المعيشة. قال بعض العلماء: "ما وقع تبذير في كثير إلا هدمه، ولا دخل تدبير في قليل إلا ثمره" (يعني نماه).
إن الاستغناء عن الناس يحفظ على العبد دينه وعزته كما قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس". ولا يكون هذا إلا بالاقتصاد:
أنفق بقدر ما استفـدت ولا.. ... ..تسرف وعش فيه عيش مقتصد
من كان فيما استفاد مقتصدا.. ... ..لم يفتقـــر بعـدها إلى أحد
الفرق بين الاقتصاد والشح:
لا شك أن هناك فرقا بين الاقتصاد والشح، وقد بينه ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح، فقال:
[والفرق بين الاقتصاد والشح: أن الاقتصاد خلق محمود يتولد من خلقين: عدل وحكمة. فبالعدل يعتدل في المنع والبذل، وبالحكمة يضع كل واحد منهما موضعه الذي يليق به، فيتولد من بينهما الاقتصاد، وهو وسط بين طرفين مذمومين كما قال تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} [الإسراء: 29]، وقال: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (الفرقان: 67)]، وقال: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} (الأعراف: 31)].
وأما الشح، فهو خلق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هالعا. والهلع: شدة الحرص على الشيء والشره به، فيتولد عنه المنع لبذله، والجزع لفقده، كما قال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر جزوعا (20) وإذا مسه الخير منوعا} (المعارج: 19 ــ 21).
ولا شك أن المقتصد يفكر في صرف المال في أوجه تعود عليه بالنفع ويقدم الأهم، أما الشحيح فإنه لا يفكر في صرف المال أصلا.
عناية السلف بالأموال:
لما علم الأسلاف رضي الله عنهم قيمة الاقتصاد وجدناهم – رغم زهدهم في الدنيا – حريصين على القصد في النفقة وعدم إهدار الأموال التي رزقهم الله إياها.
يقول أبو بكر رضي الله عنه: إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق أيام في يوم واحد".
وقال عمر رضي الله عنه: "الخرق في المعيشة أخوف عندي عليكم من العوز، لا يقل شيء مع الإصلاح، ولا يبقى شيء مع الفساد".
ورأى أبو الدرداء حبا منثورا في غرفة له، فالتقطه وقال: "إن من فقه الرجل رفقه بمعيشته".
ولما أتى قوم – عليهم الدية – أتوا قيس بن عباية – وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – يسألونه أن يعينهم، فوجدوه في بستان له يتتبع ما يسقط من الثمار فيعزل الجيد والردئ، حتى إذا فرغ كلموه في حاجتهم، فبذل لهم ما أرادوا، فقال بعضهم: صنيعك هذا (يقصدون الصدقة) مناف لترقيع عيشك. فقال: "بما رأيتم من فعلي أمكنني أن أقضي حاجتكم".
وقال بعض الأدباء: "من ربى ولده على الاقتصاد أفاده أكثر ممن يخلف له ثروة وفيرة".
حال الأمة يستدعي مزيدا من الاقتصاد:
لو لم يكن ديننا يدعونا إلى الاقتصاد في النفقة والمعيشة، لكان حال المسلمين المشردين المحرومين في كثير من بقاع الأرض دافعا إلى ترك الإسراف والأخذ بمبدأ الاقتصاد ليعين المسلم إخوانه المسلمين المحتاجين الذين لا يجدون ما يسد جوعتهم أو يستر عورتهم.
فرج الله كربات المسلمين، ورزقنا وإياكم القصد في الفقر والغنى.