الجِدُّ .. طريق الوصول

1 1098

إن للكون سننا ونواميس لا يجوز للعبد أن يصادمها أو يخالفها، بل ينبغي أن يراعيها لينعم بحياة طيبة في دنياه وسعادة دائمة في أخراه. ومن سنن الكون أن من جد وجد ، وأن من تعب قليلا استراح طويلا ؛ فالمكارم منوطة بالمكاره ، واللذات والكمالات لا تنال إلا بحظ من المشقة:

لولا المشقة ساد الناس كلهم.. .. .. الجود يفقر والإقدام قتال

أما من آثر الراحة وأخلد إلى الأرض فقل أن يفوز بمقصوده:

ومن أراد العلا عفوا بلا تعب.. ... ..قضى ولم يقض من إدراكها وطرا

لا يبلغ السؤل إلا بعد مؤلمـة.. ... .. ولا تتـم المــنـى إلا لـمـن صـبــرا

وآخر يقول:

فقل لمرجي معالي الأمور.. .. .. بغير اجتهاد: رجوت المحالا

إن حركة الأعمال في هذه الحياة تتوقف على الجد والاجتهاد؛ لذلك كان من الواجب أن ينهض الإنسان للعمل متدثرا بدثار الجد والاجتهاد والنشاط ، طارحا ثوب القعود والكسل وراءه ظهريا ، وإلى هذا يوجه القرآن والسنة ، يقول الله عز وجل: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) [التوبة:105]. ويقول الله عز وجل: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) [الملك:15].

ويعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته الجد والاجتهاد بوسائل مختلفة، فتراه صلى الله عليه وسلم يحثهم على التكسب والأكل من عمل اليد: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".(رواه البخري).

وكذلك يوصي النبي صلى الله عليه وسلم بالجد والاجتهاد وعدم الاستسلام لمشاعر الإحباط واليأس: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز". (رواه مسلم).

واستمع إليه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها". (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد). وطمأن أهل الهمة العالية بأن الله عز وجل يمدهم بالمعونة على قدر سمو هممهم: "إن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المؤنة".(رواه البزار).

وإن الجد والاجتهاد فيه مشقة وتعب، لكن له لذة وأي لذة، لاسيما حين يرى الجاد ثمار تعبه:

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها.. ... ..تنال إلا على جسر من التعب

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:

" وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله.

وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى، كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، كما قال المتنبي:

وإذا النفوس كن كبارا.. ... ..تعبت في مرادها الأجسام

وقال ابن الرومي:

قلب يظل على أفكاره ويد .. ... ..تمضي الأمور ونفس لهوها التعب

وقال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: "لا ينال العلم براحة البدن".

ولا ريب عند كل عاقل أن كمال الراحة بحسب التعب، وكمال النعيم بحسب تحمل المشاق في طريقه، وإنما تخلص الراحة واللذة والنعيم في دار السلام، فأما في هذه الدار فكلا ولما" ا هـ.( عن:علو الهمة للشيخ محمد بن إسماعيل)

إن العبد الذي يتخذ من الجد شعارا في حياته لا يعتمد على حسبه ونسبه، ولا يركن إلى الفخر بالآباء والأجداد، إنما يبني لنفسه مجدا يجمعه إلى مجد الآباء والأجداد. قال عبد الله بن معاوية:

لسنا وإن كرمت أوائلنا.. ... ..يوما على الأحساب نتكل

نبني كمـا كانت أوائلـنا.. ... ..تبني ونفعل مثل ما فعلـوا

من أقوال الحكماء والعلماء:

قال بعض الحكماء: اجعل الاجتهاد غنيمة صحتك، والعمل فرصة فراغك، فليس كل الزمان مواتيا لك ولا ما فات مستدركا.

وقال أحد الأدباء: العمل ترس يقي سهام البلاء ، والجد سيف يقطع أعناق الشقاء.

وقال آخر: لا شيء أحسن من عقل زانه حلم، ومن عمل زانه علم، ومن حلم زانه صدق.

وقال بعض العلماء: هل يجوز في وهم، أو يتمثل في عقل، أو يصح في قياس ، أن يحصد زرع بغير بذر، أو تجنى ثمرة بغير غرس، أو يورى زند بغير قدح، أو يثمر مال بغير طلب؟

وقيل: كل رزق له سبب ومن طلب الأمر وجد وجد.

وما أحسن قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقني ، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة ، والله تعالى إنما يرزق الناس بعضهم من بعض.

فشمر عن ساعد الجد واترك التواني فإن( أمتك المسلمة تنتظر منك جذبة عمرية توقد في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة ، وتنتظر منك صيحة أيوبية تغرس بذرة الأمل في بيداء اليأس ، وعلى قدر المؤنة تأتي من الله المعونة ، فاستعن بالله ولا تعجز ).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة