- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:من أعلام الدعوة
ذكرنا لكم خبر أسد بن الفرات طالب العلم وأسد الفقيه، وأسد القاضي، في مقالنا السابق (الفقيه الأميرال 1/2).. فما هو ياترى خبر أسد القائد الأميرال؟!.
حكم المسلمون أطراف البحر المتوسط من نصف الساحل الشرقي إلى نصف الساحل الغربي. وكان الساحل الجنوبي كله لهم، والشمالي تحت حمايتهم، وفي ظلال رايتهم، تربطهم عهود بإيطاليا وصقلية، فجاء زعيم صقلية لاجئا إلى أمير المغرب الأمير زيادة الله، وخبره أن حكومة صقلية نقضت العهد، وحبست أسرى المسلمين، وأساءت إلى الجالية الإسلامية.
وتردد الحاكم في قبول الخبر، وأحب أن يقف على حكم الشرع فيه.. ودعا القاضيين (أبا محرز وأسد بن الفرات) يستفتيهما، أما أبو محرز فلم ير هذا الإخبار كافيا، وأما أسد فقال: إن المعاهدة إنما أبرمت على أيدي الرسل، وإخبار الرسل كاف لنقضها.
فلما أفتاه أسد شرع يجهز الأسطول.
وطلب القاضي أسد بن الفرات أن يكون مع المجاهدين، فأبى الأمير خوفا عليه وضنا به، فألح وألح، وقال: "وجدتم من يسير لكم المراكب من النوتية، وما أحوجكم إلى من يسيرها لكم بالكتاب والسنة".
فلما رأى منه الجد، ولاه إمارة الحملة. وكان يريد أن يكون جنديا متطوعا، لا يريد الإمارة. فلما أعطيها تألم وقال للأمير: أبعد القضاء والنظر في الحلال والحرام، تعزلني وتوليني الإمارة؟، ذلك لأن القضاء كان في عرفهم فوق الإمارة،. فقال: ما عزلتك عن القضاء، ولكن أضفت إليك الإمارة، فأنت قاض وأمير. وكان أول من جمع له المنصبان.
جهز الأسطول وكان مؤلفا من ثمان وتسعين قطعة حربية، فيه جيش من عشرة آلاف راجل وتسعمائة فارس. وخرج الناس للوداع في ميناء سوسة، وكان يوما لم ير المغرب مثله، وتكلم الحاكم والخطباء، وقام القاضي الأمير ليتكلم. أحرزوا ماذا قال؟
لا، لم يزه ولم يتكبر، ولم يملأ الجو تهديدا للعدو، وإبراقا وإرعادا فخرا عارما، ولكن جعل من هذا الموقف مدرسة، وعاد مدرسا. فقال: "والله يا معشر الناس ما ولي لي أب ولا جد ولاية قط. وما رأى أحد من أسلافي مثل هذا قط، وما بلغته إلا بالعلم، فعليكم بالعلم، أتعبوا فيه أذهانكم، وكدوا به أجسادكم، تبلغوا به الدنيا والآخرة".
إمام في الفقه والحرب
كأنكم تتساءلون، وماذا يصنع هذا الشيخ بقيادة الأسطول؟ ومن أين له العلم بالحرب والبحر وما درس في مدينة بحرية، ولا مارس أمور الحرب والقتال؟
لقد نجح يا سادة ونجاحا منقطع النظير، وهاكم قصة تدلكم على شدة مراسه وقوة بأسه، وأنه كاسمه أسد غاب.
لما طالت أيام المعركة، وقلت الأقوات، تململ بعض الجند، وتحركت عناصر الشغب والفساد، وأحكموا أمرهم، وعزموا على العصيان، وحفوا بالقاضي الأمير أسد بن الفرات، وأقبل زعيمهم أسد بن قادم، يعلن رغبة الجند في العودة إلى ديارهم. وهي رغبة ظاهرها الطاعة، وباطنها الثورة، فقابلها أسد بالحكمة أولا وراح يبين لهم قرب النصر، وعظم الأجر، فما ازدادوا إلا عتوا. وتقابل الأسدان، وتجرأ الثائر فقال: على أقل من هذا قتل الخليفة عثمان بن عفان!
ومعنى هذا إعلان الثورة فماذا يصنع الفقيه القاضي؟
أيستخذي ويخضع؟ ويضيع المعركة، ويخسر النصر المرتقب، من أجل ثورة عاصفة، يقوم بها جند مشاغبون؟ أم يشتد ويحزم؟ وماذا يصنع إذا هو اختار الشدة والحزم؟
لقد صنع أيها السادة ما لا يصنع مثله أبطال الروايات الخيالية: تناول السوط من يد أحد الحرس، وانتصب أمام الثائر وضربه على وجهه أولا وثانيا. ولبسته قوة سماوية خارقة هي قوة الإيمان، صرخ بالجند: إلى الأمام. وتقدمهم، وكان الظفر، وكان الفتح، وكان ابتداء الدولة الإسلامية في صقلية التي امتدت قرونا، ولكن الثمن كان غاليا.
لقد استشهد القائد البطل الفقيه القاضي أسد ابن الفرات! هوى وهو يحمل راية النصر، ولم يعرف له قبر.
هوى طاهر الأثواب لم تبق روضة .. ... غادة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
عليك ســـــلام الله وقفـــا فإنني .. ... .. رأيت الكريم الحـر ليس له قبر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"رجال من التاريخ" لعلي الطنطاوي