الحماقة.. داء ليس له دواء

2 1747

إن من أعظم الأدواء التي يبتلى بها المرء في هذه الحياة داء الحمق ؛ فالحمق شر كله، والأحمق عدو نفسه ؛ لما يسبب لنفسه من الضرر، وهو كاسد العقل والرأي لا يحسن شيئا.

الحماقات متعددة

 والحماقات والسفاهات التي تدل على الخفة والطيش والرعونة كثيرة وعديدة، تجدها على مستوى الفرد والجماعة، والحاكم والمحكوم، والرجل والمرأة، فهذا الذي خرج يبارز ربه بالحرب، يكفر ويضجر ويظلم ويدمر الأخضر واليابس مغترا بقوته وبإملاء الله له هو شخص أحمق. وهذا الذي يمر على مصارع الهلكى ويشاهد عظيم قدرة الله في خلقه وانتقامه ممن يعصيه، ويطالع السنن الكونية والشرعية ثم يظل سائرا في غيه لا يرفع رأسا بهذه الآيات البينات ولا يسارع بتوبة وحسنات ماحيات... لا يقل في الحمق عن سابقه.

وهذا الذي يزوج ابنته من تارك الصلاة أو كافر أو فاسق لأنه غني أو صاحب مركز مرموق يفعل ذلك بزعم محبة ابنته أو الشفقة عليها، وهو في واقع الأمر يدمرها، فمن زوج ابنته من فاسق فقد قطع رحمها، ومن ضيع الصلاة فهو لما سواه أضيع.

وكذلك الأمر بالنسبة لمن يترك الحبل على الغارب لأهله وولده، يأتيهم بالأجهزة المفسدة ويتركهم يشاهدون أفلام الجنس وغيرها ويسمعون الأغاني الرقيعة الخليعة بزعم تسليتهم والترويح عنهم، هو إنسان يضيع نفسه ويضيع رعيته، وكفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول، ولن تزول قدما ابن آدم من عند الله حتى يسأل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) [التحريم:6].

الأحمق لا ينتفع بجوارحه

إن الأحمق لم ينتفع بالجوارح والحواس التي أودعت فيه، وهذا شأن الكافر والمنافق الذي ذكره سبحانه في قوله: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) [البقرة:9]، (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) [البقرة:11]، (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) [البقرة:16]، (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) [البقرة:18].

وقال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الإنس والجن لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) [الأعراف:179]. وقال سبحانه: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) [الفرقان:43].

أحاديث تذم الحمق

وقد وردت الأحاديث في ذم الحمق؛ ففي الحديث: "نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة، خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان" [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].

وعن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول: لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا. وأما الأحمق فيقول: يا رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر. وأما الهرم فيقول: يا رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا. وأما الذي مات في فترة فيقول: ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه؛ فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها كانت عليهم بردا وسلاما". [رواه أحمد والبيهقي وابن حبان].

وفي حديث أم زرع: "...قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره(تقصد عيوبه). قالت الثالثة: زوجي العشنق (شديد الطول) إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق..." [رواه البخاري ومسلم].

ومن الآثار وأقوال أهل العلم

تلا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية: (ما غرك بربك الكريم) [الانفطار:6] قال: الحمق يا رب.

وقال علي رضي الله عنه: "ليس من أحد إلا وفيه حمقة فبها يعيش".

وعن مجاهد قال: "كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما فجاء رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله قال: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) [الطلاق:2]. وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك..." [رواه أبو داود وصححه الألباني].

وعن أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما قال: "طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ليراجعها". قلت: تحتسب؟ قال: "فمه؟". وعن ابن عمر قال: "مره فليراجعها". قلت: تحتسب؟ قال: "أرأيته إن عجز واستحمق" [رواه البخاري ومسلم].

وعن محمد بن المنكدر قال: "صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه موضوعة على المشجب، قال له قائل: تصلي في إزار واحد؟ فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك، وأينا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟" [رواه البخاري].

وقال جعفر الصادق: "الأدب عند الأحمق كالماء في أصول الحنظل، كلما ازداد ريا زاد مرارة".

قال ابن أبي زياد: قال لي أبي: "يا بني الزم أهل العقل وجالسهم، واجتنب الحمقى؛ فإني ما جالست أحمق فقمت إلا وجدت النقص في عقلي".

وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: "لو حلفت لرجوت أن أبر أنه ليس أحد من الناس إلا وهو أحمق فيما بينه وبين الله عز وجل، غير أن بعض الحمق أهون من بعض".

وقيل لإبراهيم النظام: "ما حد الحمق؟ فقال: سألتني عما ليس له حد".

عن عبد الله بن إبراهيم الموصلي قال: "نابت الحجاج في صديق له مصيبة ورسول لعبد الملك شامي عنده، فقال الحجاج: ليت إنسانا يعزيني بأبيات، فقال الشامي: أقول؟ قال: قل. فقال: "وكل خليل سوف يفارق خليلا يموت أو يصاب أو يقع من فوق البيت أو يقع البيت عليه أو يقع في بئر أو يكون شيئا لا نعرفه". فقال الحجاج: قد سليتني عن مصيبتي بأعظم منها في أمير المؤمنين إذ وجه مثلك لي رسولا".

 نظر بعض الحكماء إلى أحمق جالس على حجر، فقال: "حجر على حجر".

قال بعضهم: "العاقل المحروم خير من الأحمق المرزوق".

يقال: فلان ذو حمق وافر وعقل نافر ليس معه من العقل إلا ما يوجب حجة الله عليه. .

مر بعض الأمراء على بياع ثلج فقال: أرني ما عندك، فكسر له قطعة وناوله إياها، فقال: أريد أبرد من هذا، فكسر له من الجانب الآخر، فقال: كيف سعر هذا؟ فقال: رطل بدرهم ومن الأول رطل ونصف بدرهم، فقال: زن من الثاني".

وقال آخر: "مؤنة العاقل على نفسه، ومؤنة الأحمق على الناس، ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا آخرة".

الحمق داء عضال

عن أبي إسحاق قال: "إذا بلغك أن غنيا افتقر فصدقن وإذا بلغك أن فقيرا استغنى فصدق، وإذا بلغك أن حيا مات فصدق، وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلا فلا تصدق".

وعن الأوزاعي أنه قال: "بلغني أنه قيل لعيسى بن مريم عليهما السلام: يا روح الله، إنك تحيي الموتى؟ قال: نعم؛ بإذن الله. قيل: وتبرئ الأكمه؟ قال: نعم بإذن الله. قيل: فما دواء الحمق؟ قال: هذا الذي أعياني".

وقد نظم هذا المعنى بعضهم فقال:

لكل داء دواء يستطب به .. ... .. إلا الحماقة أعيت من يداويها

من علامات الحمقى وأخلاقهم

قال أبو حاتم بن حيان الحافظ: "علامة الحمق سرعة الجواب، وترك التثبت، والإفراط في الضحك، وكثرة الالتفات، والوقيعة في الأخيار، والاختلاط بالأشرار، والأحمق إن أعرضت عنه أعتم(يعني عبس)، وإن أقبلت عليه اغتر، وإن حلمت عنه جهل عليك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، ويظلمك إن أنصفته".

وقال بعض الحكماء: "من أخلاق الأحمق: إن استغنى بطر، وإن افتقر قنط، وإن فرح أشر، وإن قال فحش، وإن سئل بخل، وإن سأل ألح، وإن قال لم يحسن، وإن قيل له لم يفقه، وإن ضحك نهق وإن بكى خار".

وقال عمر بن عبد العزيز: "ما عدمت من الأحمق فلن تعدم خلتين: سرعة الجواب، وكثرة الالتفات".

يروى عن الأحنف بن قيس أنه قال: قال الخليل بن أحمد: الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، فذاك عالم فخذوا عنه، ورجل يدري وهو لا يدري أنه يدري، فذاك ناس فذكروه، ورجل لا يدري وهو يدري أنه لا يدري فذاك طالب فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك أحمق فارفضوه".

اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة