المسألة الثامنة : في شروط صحة الاستثناء
يشترط في صحة الاستثناء شروط :
الأول :
الاتصال بالمستثنى منه لفظا بأن يكون الكلام واحدا غير منقطع ، ويلحق به ما هو في حكم الاتصال ، وذلك بأن يقطعه لعذر كسعال أو عطاس أو نحوهما مما لا يعد فاصلا بين أجزاء الكلام ، فإن انفصل لا على هذا الوجه كان لغوا ، ولم يثبت حكمه .
قال في المحصول : الاستثناء إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ إلا أو ما أقيم مقامه .
والدليل على هذا التعريف أن الذي يخرج بعض الجملة عنها إما أن يكون معنويا كدلالة العقل والقياس ، وهذا خارج عن هذا التعريف ، وإما أن يكون لفظيا ، وهو إما أن يكون منفصلا ، فيكون مستقلا بالدلالة ، وإلا كان لغوا ، وهذا أيضا خارج عن الحد أو متصلا ، وهو إما للتقييد بالصفة ، أو الشرط ، أو الغاية ، أو الاستثناء .
أما التقييد بالصفة ، فالذي خرج لم يتناوله لفظ التقييد بالصفة ; لأنك إذا قلت : أكرمني
بنو تميم الطوال ، خرج منهم القصار ، ولفظ الطوال لا يتناول القصار ، بخلاف قولنا : أكرم
بني تميم إلا زيدا ، فإن الخارج ، وهو زيد تتناوله صيغة الاستثناء ، وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط .
وأما التقييد بالغاية ، فالغاية قد تكون داخلة ، كما في قوله تعالى :
إلى المرافق بخلاف الاستثناء فثبت أن التعريف المذكور للاستثناء منطبق عليه . انتهى .
[ ص: 423 ] وقد ذهب إلى اشتراط الاتصال جمهور أهل العلم .
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه يصح الاستثناء ، وإن طال الزمان ، ثم اختلف عنه ، فقيل إلى شهر ، وقيل إلى سنة ، وقيل أبدا .
وقد رد بعض أهل العلم ، وقالوا : لم يصح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ومنهم إمام الحرمين ،
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي لما يلزم من ارتفاع الثقة بالعهود والمواثيق ، لإمكان تراخي الاستثناء .
وقال
القرافي : المنقول عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خاصة كمن حلف ، وقال : إن شاء الله ، وليس هو في الإخراج بإلا وأخواتها .
قال : ونقل العلماء أن مدركه في ذلك قوله تعالى :
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت .
قال : المعنى إذا نسيت قول ( إن شاء الله ) فقل بعد ذلك ، ولم يخصص . انتهى .
ومن قال بأن هذه المقالة لم تصح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس لعله لم يعلم بأنها ثابتة في مستدرك
الحاكم ، وقال صحيح على شرط الشيخين بلفظ : إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة .
وقد روى عنه هذا غير
الحاكم من طرق ، كما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12168أبو موسى المديني وغيره .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور : حدثنا
أبو معاوية قال : حدثنا
[ ص: 424 ] nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش عن
مجاهد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ، ورجال هذا الإسناد كلهم أئمة ثقات ، فالرواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قد صحت ، ولكن الصواب خلاف ما قاله .
ويدفعه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338097من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه . ولو كان الاستثناء جائزا على التراخي لم يوجب التكفير على التعيين ، ولقال فليستثن أو يكفر .
وأيضا هو قول يستلزم بطلان جميع الإقرارات والإنشاءات ; لأن من وقع منه ذلك يمكنه أن يقول من بعد : قد استثنيت ، فيبطل حكم ما وقع منه ، وهو خلاف الإجماع .
وأيضا يستلزم أنه لا يصح صدق ولا كذب ، لجواز أن يرد على ذلك الاستثناء ، فيصرفه عن ظاهره .
وقد احتج لما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بما أخرجه
أبو داود وغيره ، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338098والله لأغزون قريشا ، ثم سكت ، ثم قال إن شاء الله ، وليس في هذا ما
[ ص: 425 ] تقوم به الحجة ; لأن ذلك السكوت يمكن أن يكون لعارض يعرض يمنع عن الكلام .
وأيضا غاية ما فيه أنه يجوز له أن يستثني في اليمين بعد سكوته وقتا يسيرا ، ولا دليل على الزيادة على ذلك ، وقول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هو ما عرفت من جوازه بعد سنة ، قال
ابن القيم في مدارج السالكين إن مراد
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه إذا قال شيئا ولم يستثن ، فله أن يستثني عند الذكر ، قال : وقد غلط عليه من لم يفهم كلامه . انتهى .
وهذا التأويل يدفعه ما تقدم عنه .
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير : أنه يجوز الاستثناء ، ولو بعد يوم أو أسبوع أو سنة .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاووس : يجوز ما دام في المجلس .
وعن
عطاء : يجوز له أن يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة .
وروي عن
مجاهد أنه يجوز إلى سنتين .
واعلم أن الاستثناء بعد الفصل اليسير وعند التذكر قد دلت عليه الأدلة الصحيحة ، منها حديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338099لأغزون قريشا المتقدم .
ومنها : ما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338100ولا يعضد شجرها ، ولا يختلى خلاها ، فقال
العباس إلا الإذخر ، فإنه لقينهم ، وبيوتهم
[ ص: 426 ] فقال صلى الله عليه وآله وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338101إلا الإذخر .
ومنها ما ثبت في الصحيح أيضا في حديث
سليمان لما قال "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338102لأطوفن الليلة " .
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية
إلا nindex.php?page=showalam&ids=355سهيل بن بيضاء .
الشرط الثاني :
أن يكون الاستثناء غير مستغرق ، فإن كان مستغرقا ، فهو باطل بالإجماع ، كما حكاه جماعة من المحققين منهم
الرازي في المحصول ، فقال أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق ، ومنهم
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب فقال في مختصر المنتهى : الاستثناء المستغرق باطل بالاتفاق .
واتفقوا أيضا على جواز الاستثناء إذا كان المستثنى أقل مما بقي من المستثنى منه أي يكون قليلا من كثير ، واختلفوا فيما إذا كان المستثنى أكثر مما بقي من المستثنى
[ ص: 427 ] منه فمنع ذلك قوم من النحاة منهم
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج ، وقال لم ترد به اللغة ، ولأن الشيء إذا نقص يسيرا لم يزل عنه اسم ذلك الشيء ، فلو استثنى أكثر لزال الاسم .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابن جني : لو قال له عندي مائة إلا تسعة وتسعين ، ما كان متكلما بالعربية ، وكان عبثا من القول .
وقال
ابن قتيبة في كتاب المسائل : إن ذلك - يعني استثناء الأكثر - لا يجوز في اللغة ; لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من كثير ، أغفلته أو نسيته ، لقلته ، ثم تداركته بالاستثناء ، ثم ذكر مثل كلام
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج .
قال الشيخ
أبو حامد : إنه مذهب
البصريين من النحاة ، وأجازه أكثر
أهل الكوفة منهم ، وأجازه أكثر الأصوليين ، نحو : عندي له عشرة إلا تسعة ، فيلزمه درهم ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=14551السيرافي ،
وأبي عبيدة من النحاة محتجين بقوله تعالى :
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ، والمتبعون له هم الأكثر ، بدليل قوله تعالى :
وقليل من عبادي الشكور وقوله
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين .
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث
أبي بكر رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرب عز وجل
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338104يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، وقد أطعم سبحانه وكسا الأكثر من عباده بلا شك .
وقد أجيب عن هذا الدليل : بأنه استثناء منقطع ، ولا وجه لذلك .
ومن جملة المانعين من استثناء الأكثر
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ،
nindex.php?page=showalam&ids=13711وأبو الحسن الأشعري ،
وابن درستويه من النحاة ، وهو أحد قولي
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
والحق أنه لا وجه للمنع ، لا من جهة اللغة ، ولا من جهة الشرع ، ولا من جهة العقل .
[ ص: 428 ] وأما جواز استثناء المساوي فبالأولى ، وإليه ذهب الجمهور ، وهو واقع في اللغة ، وفي الكتاب العزيز نحو قوله سبحانه
قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا .
وقد نقل القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=11872أبو الطيب الطبري ، والشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=11815أبو إسحاق الشيرازي ،
والمازري ،
nindex.php?page=showalam&ids=14552والآمدي عن الحنابلة أنه لا يصح استثناء المساوي ، ولا وجه لذلك .
ومن المانعين استثناء المساوي
ابن قتيبة ، فإنه قال : القليل الذي يجوز استثناؤه هو الثلث فما دونه .
الشرط الثالث :
أن يلي الكلام بلا عاطف ، فأما إذا وليه حرف العطف ، نحو عندي له عشرة دراهم ، وإلا درهما ، أو فإلا درهما ، كان لغوا ، قال الأستاذ
nindex.php?page=showalam&ids=11812أبو إسحاق الإسفراييني بالاتفاق .
الشرط الرابع :
أن لا يكون الاستثناء من شيء معين مشار إليه ، كما لو أشار إلى عشرة دراهم ، فقال : هذه الدراهم لفلان إلا هذا ، وهذا ، فقال إمام الحرمين في النهاية أن ذلك لا يصح ; لأنه إذا أضاف الإقرار إلى معين اقتضى الإقرار الملك المطلق فيها ، فإذا أراد الاستثناء في البعض كان رجوعا عن الإقرار . انتهى .
والحق جوازه ، ولا مانع منه ، ومجرد الإقرار في ابتداء الكلام موقوف على انتهائه من غير فرق بين مشار إليه وغير مشار إليه .