المسألة الموفية ثلاثين : في
بناء العام على الخاص
قد تقدم ما يجوز التخصيص به وما لا يجوز ، فإذا كان العام الوارد من كتاب أو سنة ، قد ورد معه خاص يقتضي إخراج بعض أفراد العام من الحكم الذي حكم به عليها ، فإما أن يعلم تاريخ كل واحد منهما أو لا يعلم ، فإن علم ، فإن كان المتأخر الخاص ، فإما إن كان يتأخر عن وقت العمل بالعام ، أو عن وقت الخطاب ، فإن تأخر عن وقت العمل بالعام ، فهاهنا يكون الخاص ناسخا لذلك القدر الذي تناوله من أفراد العام .
قال
الزركشي في البحر : وفاقا ، ولا يكون تخصيصا ; لأن تأخير بيانه عن وقت العمل غير جائز قطعا .
وإن تأخر عن وقت الخطاب بالعام دون وقت العمل به ، ففي ذلك خلاف مبني على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ، فمن جوزه جعل الخاص بيانا للعام ، وقضى به عليه ، ومن منعه حكم بنسخ العام في القدر الذي عارضه فيه الخاص ، كذا قال الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=11976أبو حامد الإسفراييني ،
nindex.php?page=showalam&ids=16026وسليم الرازي قال : ولا يتصور في هذه المسألة خلاف يختص بها ، وإنما يعود الكلام فيها إلى جواز تأخير البيان ، وكذا ذكر الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=11815أبو إسحاق الشيرازي في اللمع ،
وابن الصباغ في العدة .
قال
الصفي الهندي : من لم يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب ، ولم يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به ،
كالمعتزلة ، أحال المسألة ، ومنهم من جوزهما ، فاختلفوا فيه ، فالذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم أن الخاص مخصص للعام ; لأنه وإن جاز أن يكون ناسخا لذلك القدر من العام ، لكن التخصيص
[ ص: 463 ] أقل مفسدة من النسخ ، وقد أمكن حمله عليه فتعين .
ونقل عن معظم الحنفية أن الخاص إذا تأخر عن العام وتخلل بينهما ما يمكن المكلف بهما من العمل ، أو الاعتقاد بمقتضى العام ، كان الخاص ناسخا لذلك القدر الذي تناوله من العام ; لأنهما دليلان ، وبين حكميهما تناف ، فيجعل المتأخر ناسخا للمتقدم عند الإمكان ، دفعا للتناقض ، قال : وهو ضعيف ، انتهى .
فإن تأخر العام عن وقت العمل بالخاص ، فعند
الشافعية يبنى العام على الخاص ; لأن ما تناوله الخاص متيقن ، وما تناوله العام ظاهر مظنون ، والمتيقن أولى .
وذهب
أبو حنيفة ، وأكثر أصحابه ، والقاضي
عبد الجبار إلى أن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم .
وذهب بعض
المعتزلة إلى الوقف .
وقال
أبو بكر الرازي : إذا تأخر العام كان ناسخا لما تضمنه الخاص ما لم يقم له دلالة من غيره على أن العموم مرتب على الخصوص . انتهى .
والحق في هذه الصورة البناء .
وإن تأخر العام عن وقت الخطاب بالخاص ، لكنه قبل وقت العمل به ، فحكمه حكم الذي قبله في البناء والنسخ ، إلا على رأي من لم يجوز منهم نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به ،
nindex.php?page=showalam&ids=14959كالقاضي عبد الجبار فإنه لا يمكنه الحمل على النسخ ، فتعين عليه البناء ، أو التعارض فيما تنافيا فيه .
وجعل
nindex.php?page=showalam&ids=12440إلكيا الطبري الخلاف في هذه المسألة مبنيا على تأخير البيان ، فقال : من لم يجوز تأخيره عن مورد اللفظ جعله ناسخا للخاص .
هذه الأربع الصور إذا كان تاريخهما معلوما ، فإن جهل تاريخهما ، فعند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وأصحابه ، والحنابلة ، والمالكية ، وبعض الحنفية ، والقاضي
عبد الجبار أنه يبنى العام على الخاص .
وذهب
أبو حنيفة ، وأكثر أصحابه إلى التوقف إلى ظهور التاريخ ، أو إلى ما يرجح أحدهما على الآخر من غيرهما ، وحكي نحو ذلك عن القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12604أبي بكر الباقلاني ،
والدقاق .
والحق الذي لا ينبغي العدول عنه في صورة الجهل البناء ، وليس عنه مانع يصلح
[ ص: 464 ] للتشبث به ، والجمع بين الأدلة ما أمكن هو الواجب ، ولا يمكن الجمع مع الجهل إلا بالبناء ، وما علل به المانعون في الصور المتقدمة من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة غير موجود هنا ، وقد تقرر أن الخاص أقوى دلالة من العام ، والأقوى أرجح ، وأيضا إجراء العام على عمومه إهمال للخاص ، وإعمال الخاص لا يوجب إهمال العام .
وأيضا قد نقل
أبو الحسين الإجماع على البناء مع جهل التاريخ .
والحاصل أن البناء هو الراجح على جميع التقادير المذكورة في هذه المسألة .
وما احتج به القائلون بأن العام المتأخر ناسخ من قولهم دليلان تعارضا ، وعلم التاريخ بينهما ، فوجب تسليط المتأخر على السابق ، كما لو كان المتأخر خاصا ، فيجاب عنه بأن العام المتأخر ضعيف الدلالة ، فلا ينتهض لترجيحه على قوي الدلالة .
وأيضا في البناء جمع ، وفي العمل بالعام ترجيح ، والجمع مقدم على الترجيح ، وأيضا في العمل بالعام إهمال للخاص ، وليس في التخصيص إهمال للعام ، كما تقدم .
وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في الكلام على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وفي الكلام على جواز النسخ قبل إمكان العمل إن شاء الله .