إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
المسألة الثانية عشرة

[ في كون الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ]

الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به عند الجمهور .

أما كونه لا ينسخ فلأن الإجماع لا يكون إلا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والنسخ لا يكون بعد موته ، وأما في حياته فالإجماع لا ينعقد بدونه ، بل يكون قولهم المخالف لقوله لغوا باطلا ، لا يعتد به ، ولا يلتفت إليه ، وقولهم : الموافق لقوله لا اعتبار به ، بل الاعتبار بقوله وحده ، والحجة فيه لا في غيره .

فإذا عرفت هذا علمت أن الإجماع لا ينعقد إلا بعد أيام النبوة ، وبعد أيام النبوة قد انقطع الكتاب والسنة ، فلا يمكن أن يكون الناسخ منهما ، ولا يمكن أن يكون الناسخ للإجماع إجماعا آخر ; لأن هذا الإجماع الثاني إن كان لا عن دليل فهو خطأ ، وإن كان عن دليل ، فذلك يستلزم أن يكون الإجماع الأول خطأ ، والإجماع لا يكون خطأ ، فبهذا يستحيل أن يكون الإجماع ناسخا أو منسوخا .

[ ص: 562 ] ولا يصح أيضا أن يكون الإجماع منسوخا بالقياس ; لأن من شرط العمل به أن لا يكون مخالفا للإجماع .

وقد استدل من جوز ذلك ، بما قيل : من أن الأمة إذا اختلفت على قولين فهو إجماع ، على أن المسألة اجتهادية يجوز الأخذ بكليهما ، ثم يجوز إجماعهم على أحد القولين ، كما مر في الإجماع ، فإذا أجمعوا بطل الجواز ، الذي هو مقتضى ذلك الإجماع ، وهذا هو النسخ .

وأجيب : بأنا لا نسلم ذلك لوقوع الخلاف فيه كما تقدم ، ولو سلم فلا يكون نسخا ، لما تقدم من أن الإجماع الأول مشروط بعدم الإجماع الثاني .

وقال الشريف المرتضى : إن دلالة الإجماع مستقرة في كل حال قبل انقطاع الوحي وبعده .

قال : فالأقرب أن يقال : إن الأمة أجمعت على أن ما ثبت بالإجماع لا ينسخ ، ولا ينسخ به ، أي لا يقع ذلك ، لا أنه غير جائز ، ولا يلتفت إلى قول عيسى بن أبان : إن الإجماع ناسخ لما وردت به السنة ، من " وجوب الغسل من غسل الميت " انتهى .

قال الصيرفي : ليس لإجماع حظ في نسخ الشرع ; لأنهم لا يشرعون ، ولكن إجماعهم يدل على الغلط في الخبر ، أو رفع حكمه ، لا أنهم رفعوا الحكم ، وإنما هم أتباع لما أمروا به .

وقال بعض الحنابلة : يجوز النسخ بالإجماع ، لكن لا بنفسه ، بل بسنده ، فإذا رأينا نصا صحيحا ، والإجماع بخلافه ، استدللنا بذلك على نسخه ، وأن أهل الإجماع اطلعوا على ناسخ ، وإلا لما خالفوه . وقال ابن حزم : جوز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح ، والإجماع على خلافه ، قال : وذلك دليل على أنه منسوخ ، قال : وهذا عندنا غلط فاحش ; لأن ذلك معدوم ، لقوله تعالى : [ ص: 563 ] إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وحي محفوظ . انتهى .

وممن جوز كون الإجماع ناسخا الحافظ البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه ومثله بحديث الوادي ، الذي في الصحيح حين نام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فما أيقظهم إلا حر الشمس .

وقال في آخره : فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها ، ومن الغد للوقت قال : فإعادة الصلاة المنسية بعد قضائها حال الذكر ، وفي الوقت منسوخ بإجماع المسلمين أنه لا يجب ولا يستحب .

التالي السابق


الخدمات العلمية