[ ص: 41 ] الفصل الأول في تعريف أصول الفقه وموضوعه وفائدته واستمداده
اعلم أن لهذا اللفظ اعتبارين : أحدهما باعتبار الإضافة ، والآخر باعتبار العلمية .
أما الاعتبار الأول : فيحتاج إلى تعريف المضاف وهو (
الأصول ) والمضاف إليه وهو ( الفقه ) لأن تعريف المركب يتوقف على تعريف مفرداته ، ضرورة توقف معرفة الكل على معرفة أجزائه ، ويحتاج أيضا إلى تعريف الإضافة ; لأنها بمنزلة الجزء الصوري .
أما المضاف : فالأصول جمع أصل ، وهو في اللغة ما ينبني عليه غيره .
وفي الاصطلاح : يقال على الراجح ، والمستصحب ، والقاعدة الكلية ، والدليل ، والأوفق بالمقام الرابع .
وقد قيل : إن النقل عن المعنى اللغوي هنا خلاف الأصل ولا ضرورة هنا تلجئ إليه ; لأن الانبناء العقلي كانبناء الحكم على دليله يندرج تحت مطلق الانبناء ; لأنه يشمل الانبناء الحسي كانبناء الجدار على أساسه ، والانبناء العقلي كانبناء الحكم على دليله ، ولما كان مضافا إلى الفقه هنا وهو معنى عقلي دل على أن المراد الانبناء العقلي .
وأما المضاف إليه وهو الفقه فهو في اللغة : الفهم ،
[ ص: 42 ] وفي الاصطلاح : العلم بالأحكام الشرعية عن أدلته التفصيلية بالاستدلال .
وقيل : التصديق بأعمال المكلفين التي تقصد لا لاعتقاد .
وقيل : معرفة النفس ما لها وما عليها عملا .
وقيل : اعتقاد الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية .
وقيل : هو جملة من العلوم ( بأحكام شرعية يستدل على أعيانها لا ) يعلم باضطرار أنها من الدين .
وقد اعترض على كل واحد من هذه التعريفات باعتراضات ، والأول أولاها إن حمل العلم فيه على ما يشمل الظن ، لأن غالب علم الفقه ظنون .
وأما الإضافة : فمعناها اختصاص المضاف بالمضاف إليه باعتبار مفهوم المضاف إليه ، فأصول الفقه ما يختص بالفقه من حيث كونه مبنيا عليه ومستندا إليه .
وأما الاعتبار الثاني : فهو إدراك القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ، وقيل : هو العلم بالقواعد . . إلخ .
وقيل : هو نفس القواعد الموصلة بذاتها إلى استنباط الأحكام . . إلخ .
وقيل : هو طرق الفقه على وجه الإجمال وكيفية الاستدلال بها ، وما يتبع الكيفية . وفيه أن ذكر الأدلة التفصيلية تصريح باللازم المفهوم ضمنا ; لأن المراد استنباط الأحكام تفصيلا ، وهو لا يكون إلا عن أدلتها تفصيلا ، ويزاد عليه ( على وجه التحقيق ) لإخراج علم الخلاف والجدل ، فإنهما وإن اشتملا على القواعد الموصلة إلى مسائل الفقه ، لكن لا على وجه التحقيق بل الغرض منه إلزام الخصم .
ولما كان العلم مأخوذا في أصول الفقه عند البعض حسن هاهنا أن نذكر تعريف مطلق العلم .
[ ص: 43 ] وقد اختلفت الأنظار في ذلك اختلافا كثيرا ، حتى قال جماعة منهم
الرازي : بأن مطلق العلم ضروري ، فيتعذر تعريفه ، واستدلوا بما ليس فيه شيء من الدلالة ، ويكفي في دفع ما قالوه ما هو معلوم بالوجدان لكل عاقل ، أن العلم ينقسم إلى ضروري ومكتسب .
وقال قوم منهم
الجويني : إنه نظري ، ولكنه يعسر تحديده ، ولا طريق إلى معرفته إلا القسمة والمثال ، فيقال مثلا الاعتقاد إما جازم أو غير جازم ، والجازم إما مطابق أو غير مطابق ، والمطابق إما ثابت أو غير ثابت ، فخرج من هذه القسمة اعتقاد جازم مطابق ثابت وهو العلم .
وأجيب عن هذا : بأن القسمة والمثال إن أفادا تمييزا لماهية العلم عما عداها صلحا للتعريف لها فلا يعسر ، وإن لم يفيدا تمييزا لم يصلح بهما معرفة ماهية العلم .
وقال الجمهور : إنه نظري لا يعسر تحديده ثم ذكروا له حدودا .
فمنهم من قال : هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو دليل ، وفيه أن الاعتقاد المذكور يعم الجازم وغير الجازم ، وعلى تقدير تقييده بالجازم يخرج عنه العلم بالمستحيل فإنه ليس بشيء اتفاقا .
ومنهم من قال : هو معرفة المعلوم على ما هو به ، وفيه أنه يخرج عن ذلك علم الله عز وجل إذ لا يسمى معرفة .
ومنهم من قال : هو الذي يوجب كون من قام به عالما أو يوجب لمن قام به اسم العالم ، وفيه أنه يستلزم الدور لأخذ العالم في تعريف العلم .
ومنهم من قال : هو ما يصح ممن قام به إتقان الفعل ،
[ ص: 44 ] وفيه أن في المعلومات ما لا يقدر العالم على إتقانه ، كالمستحيل .
ومنهم من قال : هو اعتقاد جازم مطابق ، وفيه أنه يخرج عنه التصورات ، وهي علم .
ومنهم من قال : هو حصول صورة الشيء في العقل ، أو الصورة الحاصلة عند العقل ، وفيه أنه يتناول الظن ، والشك ، والوهم ، والجهل المركب .
وقد جعل بعضهم هذا حدا للعلم بالمعنى الأعم الشامل للأمور المذكورة ، وفيه أن إطلاق اسم العلم على الشك ، والوهم ، والجهل المركب يخالف مفهوم العلم لغة واصطلاحا .
ومنهم من قال : هو حكم لا يحتمل طرفاه - أي المحكوم عليه وبه - نقيضه ، وفيه أنه يخرج عنه التصور ، وهو علم .
ومنهم من قال : هو صفة توجب تمييزا لمحلها ، لا يحتمل النقيض بوجه ، وفيه أن العلوم المستندة إلى العادة تحتمل النقيض لإمكان خرق العادة بالقدرة الإلهية .
ومنهم من قال : هو صفة يتجلى به المدرك للمدرك ، وفيه أن الإدراك مجاز عن العلم ، فيلزم تعريف الشيء بنفسه مع كون المجاز مهجورا في التعريفات ، ودعوى اشتهاره في المعنى الأعم الذي هو جنس الأخص غير مسلمة .
ومنهم من قال : هو صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به .
قال
المحقق الشريف : وهذا أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم ; لأن المذكور يتناول الموجود والمعدوم والممكن والمستحيل بلا خلاف ، ويتناول المفرد والمركب والكلي والجزئي .
والتجلي : هو الانكشاف التام ، فالمعنى أنه صفة ينكشف بها لمن قامت به ما من شأنه أن يذكر - انكشافا تاما - لا اشتباه فيه ، فيخرج عن الحد الظن ، والجهل المركب ، واعتقاد المقلد المصيب أيضا ; لأنه في
[ ص: 45 ] الحقيقة عقدة على القلب ، فليس فيه انكشاف تام وانشراح ينحل به العقدة . انتهى .
وفيه : أنه يخرج عنه إدراك الحواس ، فإنه لا مدخلية للمذكور به فيه ، إن أريد به الذكر اللساني ، كما هو الظاهر ، وإن أريد به ما يتناول الذكر بكسر الذال والذكر بضمها ، فإما أن يكون من الجمع بين معنيي المشترك أو من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وكلاهما مهجور في التعريفات .
هذا جملة ما قيل في تعريف العلم وقد عرفت ما ورد على كل واحد منها .
والأولى عندي أن يقال في تحديده : هو صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما وهذا لا يرد عليه شيء مما تقدم فتدبر .
وإذا عرفت ما قيل في حد العلم فاعلم أن مطلق التعريف للشيء قد يكون حقيقيا ، وقد يكون اسميا ، فالحقيقي : تعريف الماهيات الحقيقية ، والاسمي : تعريف الماهيات الاعتبارية .
وبيانه أن ما يتعقله الواضع ليضع بإزائه اسما إما أن يكون له ماهية حقيقية أو لا ، وعلى الأول إما أن يكون متعقله نفس حقيقة ذلك الشيء ، أو وجوها واعتبارات منه ، فتعريف الماهية الحقيقية بمسمى الاسم من حيث إنها ماهية حقيقية تعريف حقيقي يفيد تصور الماهية في الذهن بالذاتيات كلها أو بعضها أو بالعرضيات أو بالمركب منهما ، وتعريف مفهوم الاسم وما تعقله الواضع فوضع الاسم بإزائه تعريف اسمي يفيد تبيين ما وضع الاسم بإزائه بلفظ أشهر .
فتعريف المعدومات لا يكون إلا اسميا إذ لا حقائق لها ، بل لها مفهومات فقط ، وتعريف الموجودات قد يكون اسميا ، وقد لا يكون حقيقيا إذ لها مفهومات وحقائق ، والشرط في كل واحد منهما الاطراد والانعكاس ، فالاطراد : هو أنه كلما وجد الحد وجد المحدود فلا يدخل فيه شيء ليس من أفراد المحدود فهو بمعنى طرد الأغيار فيكون مانعا ، والانعكاس هو أنه كلما وجد المحدود وجد الحد فلا يخرج عنه شيء
[ ص: 46 ] من أفراده ، فهو بمعنى جمع الأفراد فيكون جامعا . ثم
العلم ينقسم بالضرورة إلى ضروري ونظري ، فالضروري : ما لا يحتاج في تحصيله إلى نظر .
والنظري : ما يحتاج إليه .
والنظر : هو الفكر المطلوب به علم أو ظن .
وقيل : هو ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول .
وقيل : هو حركة النفس من المطالب التصورية ، أو التصديقية ، طالبة للمبادئ وهي المعلومات التصورية ، أو التصديقية ، باستعراض صورها ، صورة صورة .
وكل واحد من الضروري والنظري ينقسم إلى قسمين : تصور وتصديق ، والكلام فيهما مبسوط في علم المنطق .
والدليل ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري .
وقيل : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالغير .
وقيل : ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر .
وقيل : هو ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول .
والأمارة : هي التي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيها إلى الظن .
والظن : تجويز راجح .
والوهم : تجويز مرجوح .
والشك : تردد الذهن بين الطرفين .
فالظن فيه حكم لحصول الراجحية ، ولا يقدح فيه احتماله للنقيض المرجوح ، والوهم لا حكم فيه لاستحالة الحكم بالنقيضين ; لأن النقيض الذي هو متعلق الظن قد حكم به ، فلو حكم بنقيضه المرجوح - وهو متعلق الوهم - لزم الحكم بهما جميعا .
والشك لا حكم فيه بواحد من الطرفين لتساوي الوقوع واللاوقوع في نظر العقل ،
[ ص: 47 ] فلو حكم بواحد منهما لزم الترجيح بلا مرجح ، ولو حكم بهما جميعا لزم الحكم بالنقيضين .
والاعتقاد في الاصطلاح : هو المعنى الموجب لمن اختص به كونه جازما بصورة مجردة ، أو بثبوت أمر أو نفيه ، وقيل هو الجزم بالشيء من دون سكون نفس ، ويقال على التصديق سواء كان جازما أو غير جازم ، مطابقا أو غير مطابق ، ثابتا أو غير ثابت ، فيندرج تحته الجهل المركب ; لأنه حكم غير مطابق ، والتقليد لأنه جزم بثبوت أمر أو نفيه لمجرد قول الغير .
وأما الجهل البسيط : فهو مقابل للعلم والاعتقاد مقابلة العدم للملكة ; لأنه عدم العلم والاعتقاد عما من شأنه أن يكون عالما أو معتقدا .
موضوع أصول الفقه .
وأما
موضوع علم أصول الفقه : فاعلم أن موضوع العلم ما يبحث فيه من أعراضه الذاتية ، والمراد بالعرض هنا المحمول على الشيء الخارج عنه ، وإنما يقال له العرض الذاتي ; لأنه يلحق الشيء لذاته كالإدراك للإنسان ، أو بواسطة أمر يساويه كالضحك للإنسان بواسطة تعجبه أو بواسطة أمر أعم منه داخل فيه كالتحرك للإنسان بواسطة كونه حيوانا .
والمراد بالبحث عن الأعراض الذاتية حملها على موضع العلم كقولنا : الكتاب يثبت به الحكم ، أو على أنواعه كقولنا : الأمر يفيد الوجوب ، أو على أعراضه الذاتية كقولنا : النص يدل على مدلوله دلالة قطعية ، أو على أنواع أعراضه الذاتية كقولنا : العام الذي خص منه البعض يدل على بقية أفراده دلالة ظنية .
وجميع مباحث أصول الفقه راجعة إلى إثبات أعراض ذاتية للأدلة والأحكام من حيث إثبات الأدلة للأحكام ، وثبوت الأحكام بالأدلة . بمعنى أن جميع مسائل هذا الفن هو الإثبات والثبوت .
وقيل : موضوع علم أصول الفقه هو الدليل السمعي الكلي فقط ، من حيث إنه
[ ص: 48 ] يوصل العلم بأحواله إلى قدرة إثبات الأحكام لأفعال المكلفين ، أخذا من شخصياته .
والمراد بالأحوال : ما يرجع إلى الإثبات وهو ذاتي للدليل . والأول أولى .
وأما
فائدة هذا العلم : فهي العلم بأحكام الله سبحانه أو الظن بها . ولما كانت هذه الغاية بهذه المنزلة من الشرف كان علم طالبه بها ووقوفه عليها مقتضيا لمزيد عنايته به وتوفر رغبته فيه ; لأنها سبب الفوز بسعادة الدارين .
وأما استمداده فمن ثلاثة أشياء :
الأول :
علم الكلام ; لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة البارئ سبحانه ، وصدق المبلغ ، وهما مبنيان فيه مقررة أدلتهما في مباحثه .
الثاني :
اللغة العربية ; لأن فهم الكتاب والسنة ، والاستدلال بهما متوقفان عليها إذ هما عربيان .
الثالث :
الأحكام الشرعية من حيث تصورها ; لأن المقصود إثباتها أو نفيها ، كقولنا : الأمر للوجوب ، والنهي للتحريم ، والصلاة واجبة ، والربا حرام ، ووجه ذكرنا لما اشتمل عليه هذا الفصل أن يوجب زيادة بصيرة لطالب هذا العلم كما لا يخفى على ذي فهم .