[ ص: 101 ] البحث الخامس : في
العلاقة بين الحقيقة والمجاز .
إنه لا بد من العلاقة في كل مجاز فيما بينه وبين الحقيقة .
والعلاقة : هي اتصال للمعنى المستعمل فيه بالموضوع له ، وذلك الاتصال إما باعتبار الصورة ، كما في المجاز المرسل ، أو باعتبار المعنى ، كما في الاستعارة ، وعلاقتها المشابهة ، وهي : الاشتراك في معنى مطلقا ، لكن يجب أن تكون ظاهرة الثبوت لمحله ، والانتفاء عن غيره ، كالأسد للرجل الشجاع ، لا الأبخر .
والمراد : الاشتراك في الكيف ، فيندرج تحت مطلق العلاقة المشاكلة الكلامية ، كإطلاق الإنسان على الصورة المنقوشة ، ويندرج تحتها أيضا المطابقة والمناسبة ، والتضاد المنزل منزلة التناسب لتهكم نحو :
فبشرهم بعذاب أليم فهذا الاتصال المعنوي .
وأما الاتصال الصوري : فهو إما في اللفظ ، وذلك في المجاز بالزيادة والنقصان ، وفي المشاكلة البديعية ، وهي الصحبة الحقيقية أو التقديرية .
وقد تكون العلاقة باعتبار ما مضى ، وهو الكون عليه كاليتيم للبالغ ، أو باعتبار المستقبل ، وهو الأول إليه كالخمر للعصير ، أو باعتبار الكلية والجزئية ، كالركوع في الصلاة واليد فيما وراء الرسغ ، والحالية والمحلية ، كاليد في القدرة ، والسببية والمسببية ، والإطلاق ، والتقييد ، واللزوم ، والمجاورة ، والظرفية ، والمظروفية ، والبدلية ، والشرطية ، والمشروطية والضدية .
ومن العلاقات : إطلاق المصدر على الفاعل أو المفعول ، كالعلم في العالم أو المعلوم .
ومنها : تسمية إمكان الشيء باسم وجوده ، كما يقال للخمر التي في الدن : إنها مسكرة .
ومنها : إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال المشتق منه .
وقد جعل بعضهم في إطلاق اسم السبب على المسبب أربعة أنواع : القابل ، والصورة ، والفاعل ، والغاية ، أي تسمية الشيء باسم قابله نحو : سال الوادي ، وتسمية الشيء باسم صورته ، كتسمية القدرة باليد ، وتسمية الشيء باسم فاعله حقيقة أو ظنا كتسمية
[ ص: 102 ] المطر بالسماء ، والنبات بالغيث ، وتسمية الشيء باسم غايته ، كتسمية العنب بالخمر .
وفي إطلاق اسم المسبب على السبب أربعة أنواع على العكس من هذه المذكورة قبل هذا .
وعد بعضهم من العلاقات الحلول في محل واحد ، كالحياة في الإيمان والعلم ، وكالموت في ضدهما ، والحلول في محلين متقاربين ، كرضا الله في رضا رسوله ، والحلول في حيزين متقاربين ، كالبيت في
الحرم ، كما في قوله :
فيه آيات بينات مقام إبراهيم .
وهذه الأنواع راجعة إلى علاقة الحالية والمحلية ، كما أن الأنواع السابقة مندرجة تحت علاقة السببية والمسببية ، فما ذكرناه هاهنا مجموعه أكثر من ثلاثين علاقة .
وعد بعضهم من العلاقات ما لا تعلق له بالمقام كحذف المضاف نحو
واسأل القرية يعني أهلها ، وحذف المضاف إليه نحو : أنا ابن جلا ، أي : أنا ابن رجل جلا .
والنكرة في الإثبات إذا جعلت للعموم نحو :
علمت نفس ما أحضرت أي : كل نفس ، والمعرف باللام إذا أريد به الواحد المنكر نحو :
ادخلوا عليهم الباب أي : بابا من أبوابها ، والحذف نحو :
يبين الله لكم أن تضلوا أي : كراهة أن تضلوا ، والزيادة كقوله تعالى :
ليس كمثله شيء .
ولو كانت هذه معتبرة لكانت العلاقات نحو أربعين علاقة ، لا كما قال بعضهم : إنها لا تزيد على إحدى عشرة .
وقال آخر : لا تزيد على عشرين .
[ ص: 103 ] وقال آخر : لا تزيد عن خمس وعشرين . فتدبر .
واعلم أنه لا يشترط النقل في آحاد المجاز ، بل العلاقة كافية ، والمعتبر نوعها ، ولو كان نقل آحاد المجاز معتبرا ; لتوقف أهل العربية في التجوز على النقل ، ولوقعت منهم التخطئة لمن استعمل غير المسموع من المجازات ، وليس كذلك بالاستقراء . ولذلك لم يدونوا المجازات كالحقائق .
وأيضا لو كان نقليا لاستغنى عن النظر في العلاقة ، لكفاية النقل .
وإلى عدم اشتراط نقل آحاد المجاز ذهب الجمهور ، وهو الحق ، ولم يأت من اشترط ذلك بحجة تصلح لذكرها ، وتستدعي التعرض لدفعها .
وكل من له علم وفهم يعلم أن أهل اللغة العربية ما زالوا يخترعون المجازات عند وجود العلاقة ومع نصب القرينة ، وهكذا من جاء بعدهم من أهل البلاغة في فني النظم والنثر ، ويتمادحون باختراع الشيء الغريب من المجازات عند وجود المصحح للتجوز ، ولم يسمع عن واحد منهم خلاف هذا .