البحث التاسع
في
اللفظ إذا دار بين أن يكون مجازا أو مشتركا هل يرجح المجاز على الاشتراك أو الاشتراك على المجاز ؟
فرجح قوم الأول ، ورجح آخرون الثاني .
استدل الأولون بأن المجاز أكثر من الاشتراك في لغة العرب ، فرجح الأكثر على الأقل .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابن جني : أكثر اللغة مجاز ، وبأن المجاز معمول به مطلقا ، فبلا قرينة حقيقية ، ومعها مجاز ، والمشترك بلا قرينة مهمل ، والإعمال أولى من الإهمال . وبأن المجاز أبلغ من الحقيقة ، كما هو مقرر في علم المعاني والبيان ، وبأنه أوجز كما في الاستعارة ، فهذه فوائد للمجاز .
وقد ذكروا غيرها من الفوائد التي لا مدخل لها في المقام ، وذكروا للمشترك مفاسد منها : إخلاله بالفهم عند خفاء القرينة ، عند من لا يجوز حمله على معنييه ، أو معانيه
[ ص: 109 ] بخلاف المجاز ، فإنه عند خفاء القرينة يحمل على الحقيقة .
ومنها : تأديته إلى مستبعد من نقيض ، أو ضد ، كالقرء إذا أطلق مرادا به الحيض ، فيفهم منه الطهر ، أو بالعكس .
ومنها : احتياجه إلى قرينتين : إحداهما معينة للمعنى المراد ، والأخرى معينة للمعنى الآخر ، بخلاف المجاز ، فإنه تكفي فيه قرينة واحدة .
واحتج الآخرون : بأن للاشتراك فوائد ، لا توجد في المجاز ، وفي المجاز مفاسد لا توجد في المشترك .
فمن الفوائد : أن المشترك مطرد فلا يضطرب ، بخلاف المجاز ، فقد لا يطرد كما تقدم .
ومنها : الاشتقاق منه بالمعنيين ، فيتسع الكلام نحو : " أقرأت المرأة " بمعنى حاضت ، وطهرت ، والمجاز لا يشتق منه ، وإن صلح له حال كونه حقيقة .
ومنها : صحة التجوز باعتبار معنيي المشترك ، فتكثر بذلك الفوائد .
وأما مفاسد المجاز التي لا توجد في المشترك فمنها : احتياجه إلى الوضعين الشخصي والنوعي ، والشخصي باعتبار معناه الأصلي والفرعي للعلاقة ، والمشترك يكفي فيه الوضع الشخصي ولا يحتاج إلى النوعي ، لعدم احتياجه إلى العلاقة .
ومنها : أن المجاز مخالف للظاهر ، فإن الظاهر المعنى الحقيقي ، لا المجازي ، بخلاف المشترك ، فإنه ليس ظاهرا في بعض معانيه دون بعض ، حتى يلزم بإرادة أحدها مخالفة الظاهر .
ومنها : أن المجاز قد يؤدي إلى الغلط عند عدم القرينة ، فيحمل على المعنى الحقيقي بخلاف المشترك فإن معانيه كلها حقيقة .
وقد أجيب عن هذه الفوائد والمفاسد التي ذكرها الأولون والآخرون .
والحق أن الحمل على المجاز أولى من الحمل على الاشتراك لغلبة المجاز بلا خلاف ، والحمل على الأعم الأغلب دون القليل النادر متعين .
[ ص: 110 ] واعلم أن التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ لا يختص بالتعارض بين المشترك والمجاز ، فإن الخلل في فهم مراد المتكلم يكون على خمسة أوجه :
أحدها : احتمال الاشتراك . وثانيها : احتمال النقل بالعرف أو الشرع . وثالثها : احتمال المجاز . ورابعها : احتمال الإضمار . وخامسها : احتمال التخصيص .
ووجه كون هذه الوجوه تؤثر خللا في فهم مراد المتكلم : أنه إذا انتفى احتمال الاشتراك والنقل ، كان اللفظ موضوعا لمعنى واحد ، وإذا انتفى احتمال المجاز والإضمار كان المراد من اللفظ ما وضع له ، وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع ما وضع له ، فلا يبقى عند ذلك خلل في الفهم .
والتعارض بين هذه يقع من عشرة وجوه ; لأنه يقع بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية ، ثم بين النقل وبين الثلاثة الباقية ، ثم بين المجاز والوجهين الباقيين ، ثم بين الإضمار والتخصيص .
فإذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل ، فقيل : إن النقل أولى ; لأنه يكون اللفظ عند النقل لحقيقة واحدة مفردة في جميع الأوقات ، والمشترك مشترك في الأوقات كلها .
وقيل : الاشتراك أولى ; لأنه لا يقتضي فسخ وضع سابق ، والنقل يقتضيه .
وأيضا : لم ينكر وقوع المشترك في لغة العرب أحد من أهل العلم ، وأنكر النقل كثير منهم .
وأيضا : قد لا يعرف النقل ، فيحمل السامع ما سمعه من اللفظ على المعنى الأصلي ، فيقع الغلط .
وأيضا : المشترك أكثر وجودا من المنقول .
وهذه الوجوه ترجح الاشتراك على النقل ، وهي أقوى مما استدل به من رجح النقل .
وأما التعارض بين المشترك والمجاز فقد تقدم تحقيقه في صدر هذا البحث .
وأما التعارض بين الاشتراك والإضمار ، فقيل : إن الإضمار أولى ; لأن الإجمال
[ ص: 111 ] الحاصل بسبب الإضمار مختص ببعض الصور ، والإجمال الحاصل بسبب الاشتراك عام في كل الصور ، فكان إخلاله بالفهم أكثر من إخلال الإضمار به .
وقيل : إن الاشتراك أولى ; لأن الإضمار محتاج إلى ثلاث قرائن : قرينة تدل على أصل الإضمار ، وقرينة تدل على موضع الإضمار ، وقرينة تدل على نفس المضمر ، والمشترك يفتقر إلى قرينتين ، كما سبق ، فكان الإضمار أكثر إخلالا بالفهم .
وأجيب : بأن الإضمار وإن افتقر إلى تلك القرائن الثلاث : فذلك في صورة واحدة ، بخلاف المشترك ، فإنه يفتقر إلى القرينتين في صور متعددة ، فكان أكثر إخلالا بالفهم ، على أن الإضمار من باب الإيجاز ، وهو من محسنات الكلام .
وأما التعارض بين الاشتراك والتخصيص : فقيل : التخصيص أولى ; لأن التخصيص أولى من المجاز ، وقد تقدم أن المجاز أولى من الاشتراك .
وأما التعارض بين النقل والمجاز : فقيل : المجاز أولى ; لأن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع ، وذلك متعذر أو متعسر ، والمجاز يحتاج إلى قرينة مانعة عن فهم الحقيقة وذلك متيسر . وأيضا المجاز أكثر من النقل ، والحمل على الأكثر مقدم ، وأيضا في المجاز ما قدمنا من الفوائد ، وليس شيء من ذلك في المنقول .
وأما التعارض بين النقل والتخصيص : فقيل : التخصيص أولى ; لما تقدم من أن التخصيص مقدم على المجاز ، والمجاز مقدم على النقل .
وأما التعارض بين المجاز والإضمار : فقيل : هما سواء ، وقيل : المجاز أولى ; لأن الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن ، كما تقدم .
وأما التعارض بين المجاز والتخصيص : فالتخصيص أولى ; لأن السامع إذا لم يجد قرينة تدل على التخصيص ، حمل اللفظ على عمومه ، فيحصل مراد المتكلم ، وأما في المجاز فالسامع إذا لم يجد قرينة لحمله على الحقيقة ، فلا يحصل مراد المتكلم .
وأما التعارض بين الإضمار والتخصيص : فالتخصيص أولى لما تقدم من أن التخصيص مقدم على المجاز ، والمجاز هو والإضمار سواء ، وهو أولى من الإضمار .