إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
معنى بعض حروف المعاني

وقد ذكر جماعة من أهل الأصول في المبادئ مباحث في بعض الحروف التي ربما يحتاج إليها الأصولي ، وأنت خبير بأنها مدونة في فن مستقل مبينة بيانا تاما ، وذلك كالخلاف في الواو هل هي لمطلق الجمع أو للترتيب ؟

فذهب إلى الأول جمهور النحاة ، والأصوليين ، والفقهاء .

قال أبو علي الفارسي : أجمع نحاة البصرة ، والكوفة ، على أنها للجمع المطلق .

وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه ، أنها للجمع المطلق ، وهو الحق .

وقال الفراء وثعلب وأبو عبيد : إنها للترتيب .

[ ص: 114 ] وروي هذا عن الشافعي والمؤيد بالله وأبي طالب . احتج الجمهور بأن الواو قد تستعمل فيما يمتنع الترتيب فيه ، كقولهم : تقاتل زيد وعمرو ، ولو قيل : تقاتل زيد فعمرو ، أو تقاتل زيد ثم عمرو ، لم يصح ، والأصل الحقيقة ، فوجب أن يكون حقيقة في غير الترتيب .

وأيضا : لو اقتضت الواو الترتيب لم يصح قولك : رأيت زيدا وعمرا بعده ، أو رأيت زيدا وعمرا قبله ; لأن قولك : بعده ، يكون تكرارا لما تفيده الواو من الترتيب ، وقولك : قبله ، يكون مناقضا لمعنى الترتيب .

ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال : بأنه امتنع جعل الواو هنا للترتيب ; لوجود مانع ، ولا يستلزم ذلك امتناعه عند عدمه .

واحتجوا أيضا بقوله تعالى : وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة في سورة البقرة ، وقال في سورة الأعراف : وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا وقوله : واسجدي واركعي مع الراكعين مع أن الركوع مقدم على السجود ، وقوله : فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وقوله : أو تقطع أيديهم وأرجلهم وقوله : والسارق والسارقة و الزانية والزاني وليست في شيء من هذه المواضع للترتيب ، وهكذا في غيرها مما يكثر تعداده‌‌ .

وعلى كل حال فأهل اللغة العربية لا يفهمون من قول من قال : اشتر الطعام والإدام ، أو اشتر الإدام والطعام الترتيب أصلا ، وأيضا لو كانت الواو للترتيب ، لفهم الصحابة رضي الله عنهم من قوله سبحانه : إن الصفا والمروة من شعائر الله أن الابتداء يكون من الصفا من دون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ ص: 115 ] عن ذلك ، ولكنهم سألوه فقال : ابدءوا بما بدأ الله به .

واحتج القائلون بالترتيب ، بما صح أن خطيبا قال في خطبته : من يطع الله ورسوله فقد اهتدى ، ومن عصاهما فقد غوى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بئس خطيب القوم أنت ، قل : ومن يعص الله ورسوله .

ولو كان الواو لمطلق الجمع لما افترق الحال بين ما علمه الرسول ، وبين ما قاله .

وأجيب عن هذا : بأنه إنما أمره صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ; لأنه فهم منه اعتقاد التسوية بين الله ورسوله ، فأمره بعدم الجمع بينهما في ضمير واحد تعظيما لله سبحانه .

والحاصل : أنه لم يأت القائلون بإفادة الواو للترتيب بشيء يصلح للاستدلال به ويستدعي الجواب عنه .

وكما أن الواو لمطلق الجمع من دون ترتيب ولا معية ، فالفاء للتعقيب بإجماع أهل اللغة ، وإذا وردت لغير تعقيب ، فذلك لدليل آخر ، مقترن معناه بمعناها .

وكذلك ( في ) للظرفية إما محققة أو مقدرة .

وكذلك ( من ) ترد لمعان .

وكذلك ( الباء ) لها معان مبينة في علم الإعراب ، فلا حاجة لنا إلى التطويل بهذه الحروف ، التي لا يتعلق بتطويل الكلام فيها كثير فائدة ، فإن معرفة ذلك قد عرفت من ذلك العلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية