فعليه أولا :
أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة ، فإن وجد ذلك فيهما قدمه على غيره ، فإن لم يجده أخذ بالظواهر منهما ، وما يستفاد بمنطوقهما ومفهومهما ، فإن لم يجد نظر في أفعال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ثم في تقريراته لبعض أمته ، ثم في الإجماع ، إن كان يقول بحجيته ، ثم في القياس ، على ما يقتضيه اجتهاده من العمل بمسالك العلة ، كلا أو بعضا .
وما أحسن ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13790الإمام الشافعي فيما حكاه عنه
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي : أنها إذا وقعت الواقعة للمجتهد ، فليعرضها على نصوص الكتاب ، فإن أعوزه عرضها على الخبر المتواتر ، ثم الآحاد ، فإن أعوزه لم يخض في القياس ، بل يلتفت إلى ظواهر الكتاب ، فإن وجد ظاهرا نظر في المخصصات ، من قياس ، وخبر ، فإن لم يجد مخصصا حكم به ، وإن لم يعثر على ظاهر ، من كتاب ولا سنة ، نظر إلى المذاهب ، فإن وجدها مجمعا عليها اتبع الإجماع ، وإن لم يجد إجماعا خاض في القياس ، ويلاحظ القواعد الكلية أولا ، ويقدمها على الجزئيات ، كما في القتل بالمثقل ، فتقدم قاعدة " الردع " على مراعاة الاسم ، فإن عدم قاعدة كلية نظر في المنصوص ، ومواقع الإجماع ، فإن وجدها في معنى واحد ألحق به ، وإلا انحدر به القياس ، فإن أعوزه تمسك بالشبه ، ولا يعول على طرد انتهى .
وإذا أعوزه ذلك كله تمسك بالبراءة الأصلية ، وعليه عند التعارض بين الأدلة أن يقدم طريق الجمع على وجه مقبول ، فإن أعوزه ذلك رجع إلى الترجيح بالمرجحات التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى .
قال
الماوردي : الاجتهاد بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ينقسم إلى ثمانية أقسام :
[ ص: 738 ] ( أحدها ) :
ما كان الاجتهاد مستخرجا من معنى النص ، كاستخراج علة الربا ، فهذا صحيح عند القائلين بالقياس .
( ثانيهما ) :
ما استخرجه من شبه النص ، كالعبد ، لتردد شبهه بالحر في أنه يملك ; لأنه مكلف ، وشبهه بالبهيمة في أنه لا يملك ; لأنه مملوك ، فهذا صحيح ، غير مرفوع عند القائلين بالقياس والمنكرين له ، غير أن المنكرين له جعلوه داخلا في عموم أحد الشبهين .
( ثالثها ) :
ما كان مستخرجا من عموم النص ، كالذي بيده عقدة النكاح في قوله :
أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإنه ( يعم الأب والزوج والمراد به أحدهما ) وهذا صحيح يتوصل إليه بالترجيح .
( رابعها ) :
ما استخرج من إجماع النص كقوله في المتعة :
ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره فيصح الاجتهاد في قدر المتعة باعتبار حال الزوجين .
( خامسها ) :
ما استخرج من أحوال النص كقوله في التمتع :
فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم فاحتمل صيام السبعة إذا رجع في طريقه ، وإذا رجع إلى أهله فيصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين على الأخرى .
( سادسها ) :
ما استخرج من دلائل النص ، كقوله :
لينفق ذو سعة من سعته فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدين ، بأن أكثر ما جاءت به السنة في فدية الآدمي أن لكل مسكين مدين ، واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمد بأنه أقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء أن لكل مسكين مدا .
( سابعها ) :
ما استخرج من أمارات النص ، كاستخراج دلائل القبلة لمن خفيت عليه من قوله تعالى :
وعلامات وبالنجم هم يهتدون فيكون الاجتهاد في القبلة بالأمارات والدلائل عليها ، من هبوب الرياح ومطالع النجوم .
[ ص: 739 ] ( ثامنها ) :
ما استخرج من غير نص ولا أصل ، فاختلف في صحة الاجتهاد ، فقيل : لا يصح حتى يقترن بأصل .
وقيل : يصح لأنه في الشرع أصل انتهى .
وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، وجعل كل ذلك دأبه ، ووجه إليه همته ، واستعان بالله - عز وجل ، واستمد منه التوفيق ، وكان معظم همه ، ومرمى قصده ، الوقوف على الحق ، والعثور على الصواب ، من دون تعصب لمذهب من المذاهب ; وجد فيهما ما يطلبه ، فإنهما الكثير الطيب ، والبحر الذي لا ينزف والنهر الذي يشرب منه كل وارد عليه العذب الزلال ، والمعتصم الذي يأوي إليه كل خائف ، فاشدد يديك على هذا ، فإنك إن قبلته بصدر منشرح ، وقلب موفق ، وعقل قد حلت به الهداية ; وجدت فيهما كل ما تطلبه من أدلة الأحكام التي تريد الوقوف على دلائلها كائنا ما كان .
فإن استبعدت هذا المقال ، واستعظمت هذا الكلام ، وقلت كما قاله كثير من الناس : إن أدلة الكتاب والسنة لا تفي بجميع الحوادث ، فمن نفسك أتيت ، ومن قبل تقصيرك أصبت ، وعلى نفسها براقش تجني ، وإنما تنشرح لهذا الكلام صدور قوم موفقين وقلوب رجال مستعدين لهذه المرتبة العلية .
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى تكون حشاك في أحشائه لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى
فإذا عشقت فعند ذلك عنف