[ ص: 750 ] لا يجوز أن يكون لمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد ; لأن دليلهما إن تعادلا من كل وجه ، ولم يمكن الجمع ولا الترجيح وجب عليه الوقف ، وإن أمكن الجمع بينهما ، وجب عليه المصير إلى الصورة الجامعة بينهما ، وإن ترجح أحدهما على الآخر ، تعين عليه الأخذ به ، وبهذا يعلم امتناع أن يكون له قولان متناقضان في وقت واحد باعتبار شخص واحد .
وأما في وقتين فجائز ، لجواز تغير الاجتهاد الأول ، وظهور ما هو أولى ، بأن يأخذ به [ ويدع ] ما كان قد أخذ به .
وأما بالنسبة إلى شخصين فيكون ذلك على اختلاف المذهبين المعروفين ، عند تعادل الأمارتين ، فمن قال بالتخيير جوز ذلك له .
ومن قال بالوقف لم يجوز ، فإن كان للمجتهد قولان واقعان في وقتين ، فالقول الآخر رجوعه عن القول الأول بدلالته على تغير اجتهاد الأول .
إذا أفتى المجتهد مرة بما أدى إليه اجتهاده ، ثم سئل ثانيا عن تلك الحادثة ، فإما أن يكون ذاكرا لطريق الاجتهاد الأول أو لا يكون ذاكرا ، فإن كان ذاكرا جاز له الفتوى به ، وإن نسيه لزمه أن يستأنف الاجتهاد ، فإن أداه اجتهاده إلى خلاف فتواه في الأول أفتى بما أدى إليه اجتهاده ثانيا ، وإن أداه إلى موافقة ما قد أفتى به أولا ( أفتى به ) وإن لم يستأنف الاجتهاد ، لم يجز له الفتوى .
قال
الرازي في المحصول : ولقائل أن يقول : لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به كان طريقا قويا ، حصل له الآن ظن أن ذلك القوي حق ، جاز له الفتوى به ; لأن العمل بالظن واجب ، وأما إذا حكم المجتهد باجتهاده ، فليس له أن ينقضه إذا تغير اجتهاده ، وترجح له ما يخالف الاجتهاد الأول ; لأن ذلك يؤدي إلى
[ ص: 751 ] عدم استقرار الأحكام الشرعية .
وهكذا ليس له أن ينقض باجتهاد ما حكم به حاكم آخر باجتهاده ; لأنه يؤدي إلى ذلك ، ويتسلسل ، وتفوت مصلحة نصب الحكام ، وهي فصل الخصومات ، ما لم يكن ما حكم به الحاكم الأول ، مخالفا لدليل قطعي ، فإن كان مخالفا للدليل القاطع نقضه اتفاقا ، وإذا حكم المجتهد بما يخالف اجتهاده ، فحكمه باطل ; لأنه متعبد بما أدى إليه اجتهاده ، وليس له أن يقول بما يخالفه ، ولا يحل له أن يقلد مجتهدا آخر فيما يخالف اجتهاده بل يحرم عليه التقليد مطلقا إذا كان قد اجتهد في المسألة ، فأداه اجتهاده إلى حكم ولا خلاف في هذا .
وأما قبل أن يجتهد ، فالحق أنه لا يجوز له تقليد مجتهد آخر مطلقا .
وقيل : يجوز له فيما يخصه من الأحكام ، لا فيما لا يخصه ، فلا يجوز .
وقيل : يجوز له تقليد من هو أعلم منه .
وقيل : يجوز له أن يقلد مجتهدا من مجتهدي الصحابة ، ولأهل الأصول في هذه المباحث كلام طويل ، وليست محتاجة إلى التطويل ، فإن القول فيها لا مستند له إلا محض الرأي .