اختلفوا في
المسائل العقلية ، وهي المتعلقة بوجود البارئ وصفاته ، هل يجوز التقليد فيها أم لا ؟
فحكى
الرازي في المحصول عن كثير من الفقهاء أنه يجوز ، ولم يحكه
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب في المختصر إلا عن
العنبري .
وحكاه
الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12855أبو الحسين بن القطان : لا نعلم خلافا في امتناع التقليد في التوحيد .
[ ص: 758 ] وحكاه
ابن السمعاني عن جميع
المتكلمين ، وطائفة من الفقهاء .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين في الشامل لم يقل بالتقليد في الأصول إلا
الحنابلة .
وقال
الإسفراييني : لا يخالف فيه إلا
أهل الظاهر .
واستدل الجمهور بأن
الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله - عز وجل - وأنها لا تحصل بالتقليد ; لأن المقلد ليس معه إلا الأخذ بقول من يقلده ، ولا يدري أهو صواب أم خطأ .
قال
الأستاذ أبو منصور فلو اعتقد من غير معرفة بالدليل ، فاختلفوا فيه : فقال أكثر الأئمة : إنه مؤمن من أهل الشفاعة ، وإن فسق بترك الاستدلال ، وبه قال أئمة الحديث .
وقال
الأشعري وجمهور
المعتزلة : لا يكون مؤمنا حتى يخرج فيها عن جملة المقلدين انتهى .
فيالله العجب من هذه المقالة التي تقشعر لها الجلود ، وترجف عند سماعها الأفئدة ، فإنها جناية على جمهور هذه الأمة المرحومة ، وتكليف لهم بما ليس في وسعهم ولا يطيقونه ، وقد كفى الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد ولا قاربوها الإيمان الجملي ، ولم يكلفهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك بأدلته .
وما حكاه
الأستاذ أبو منصور عن أئمة الحديث من أنه مؤمن ، وإن فسق ، فلا يصح التفسيق عنهم بوجه من الوجوه ، بل مذهب سابقهم ولاحقهم الاكتفاء بالإيمان الجملي ، وهو الذي كان عليه خير القرون ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، بل حرم كثير منهم النظر في ذلك ، وجعله من الضلالة والجهالة ، ولم يخف هذا من مذهبهم ، حتى على أهل الأصول والفقه .
قال
الأستاذ أبو إسحاق : ذهب قوم من كتبة الحديث إلى أن
طلب الدليل فيما يتعلق بالتوحيد غير واجب ، وإنما الغرض هو قول الله ورسوله ، ويرون الشروع في موجبات العقول كفرا ، وأن الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه ، وإنما هو
[ ص: 759 ] طريق إلى حصول العلم ، حتى يصير بحيث لا يتردد ، فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شك فيه ، من غير دلالة قاطعة ; فقد صار مؤمنا ، وزال عنه كلفة طلب الأدلة ، ومن أحسن الله إليه وأنعم الله عليه بالاعتقاد الصافي ، من الشبهة والشكوك ; فقد أنعم الله عليه بأكمل أنواع النعم وأجلها ، حين لم يكله إلى النظر والاستدلال ، لا سيما العوام ، فإن كثيرا ، منهم تجده في صيانة اعتقاده أكثر ممن يشاهد ذلك بالأدلة انتهى .
ومن أمعن النظر في أحوال العوام ( وجد هذا ) صحيحا ، فإن كثيرا منهم نجد الإيمان في صدره كالجبال الرواسي ، ونجد بعض المتعلقين بعلم الكلام المشتغلين به ، الخائضين في معقولاته التي يتخبط فيها أهلها لا يزال ينقص إيمانه ، وتنتقض منه عروة عروة ، فإن أدركته الألطاف الربانية نجا ، وإلا هلك ، ولهذا تمنى كثير من الخائضين في هذه العلوم ، المتبحرين في أنواعها ، في آخر أمره ، أن يكون على دين العجائز ، ولهم في ذلك من الكلمات المنظومة والمنثورة ما لا يخفى على من له إطلاع على أخبار الناس .
وقد أنكر
القشيري ، والشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=14048أبو محمد الجويني ، وغيرهما ، من المحققين صحة هذه الرواية المتقدمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي حسن الأشعري .
قال
ابن السمعاني : إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جدا عن الصواب ، ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد من العوام من يعرف ذلك ، وتصدر عقيدته عنه ، كيف وهم لو عرضت عليهم تلك الأدلة لم يفهموها ، وإنما غاية العامي أن يتلقن ما يريد أن يعتقده ، ويلقى به ربه ، من العلماء يتبعهم في ذلك ، ثم يسلم عليها بقلب طاهر عن الأهواء ، والأدغال ، ثم يعض عليها بالنواجذ ، فلا يحول ولا يزول ، لو قطع إربا فهنيئا لهم السلامة ، والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام ، والورطات التي توغلوها ، حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك ، ودخلت عليهم الشبهات العظيمة ، فصاروا متحيرين ، ولا يوجد فيهم متورع عفيف ، إلا القليل فإنهم أعرضوا عن ورع الألسنة ، وأرسلوها في صفات الله بجرأة وعدم مهابة وحرمة .
قال : ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه إلا ولخصومهم عليه من الشبه القوية ، ونحن لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به برد الخاطر ، وإنما
[ ص: 760 ] المنكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول بالطريق الذي اعتقدوه وساموا به الخلق ، وزعموا أن من لم يعرف ذلك لم يعرف الله تعالى ، ثم أداهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع ، وهذا هو الخطة الشنعاء ، والداء العضال ، وإذا كان السواد الأعظم هو العوام ، وبهم قوام الدين ، وعليهم مدار رحى الإسلام ، ولعله لا يوجد في البلدة الواحدة ، التي تجمع المائة الألف من يقوم بالشرائط التي يعتبرونها ، إلا العدد الشاذ ، الشارد النادر ، ولعله لا يبلغ عدد العشرة انتهى .