اختلفوا في وجوب
شكر المنعم عقلا :
فالمعتزلة ومن وافقهم أوجبوه بالعقل على من لم يبلغه الشرع .
وخالف في ذلك جمهور الأشعرية ، ومن وافقهم ؛ لأنهم يقولون لا حكم للعقل ، كما تقدم تحقيقه .
[ ص: 812 ] قالوا : وعلى تقدير التسليم لحكم العقل تنزلا فلا حكم لعقل بوجوب شكر المنعم ، فلا إثم في تركه على من لم تبلغه دعوة النبوة ؛ لأنه لو وجب لوجب لفائدة ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله .
وتقرير الملازمة : أنه لو وجب لا لفائدة ، لكان عبثا ، وهو قبيح ، فلا يجب عقلا ، ولا يجوز على الله - سبحانه - إيجاب ما كان عبثا .
وأما تقرير بطلان اللازم ، فلأن الفائدة إما أن تكون لله - تعالى ، أو تكون للعبد ، إما في الدنيا أو في الآخرة ، والكل باطل ؛ لأن الله - سبحانه - متعال ( عن الفائدة ) ، ولأنه لا منفعة فيه للعبد في الدنيا ؛ لأنه تعب ومشقة عليه ، ولا حظ للنفس فيه ، وما كان كذلك لا يكون له فائدة دنيوية ، وأما انتفاع العبد به في الآخرة ، فلأن أمور الآخرة من الغيب الذي لا مجال للعقل فيه .
وأجيب عن ذلك : بمنع كونه لا فائدة للعبد فيه ، وسند هذا المنع : بأن فائدته للعبد في الدنيا هي دفع ضرر خوف العقاب ، وذلك للزوم الخطور على بال عاقل ، إذا رأى ما عليه من النعم المتجددة ، وقتا بعد وقت ، أن المنعم قد ألزمه بالشكر ، كما يخطر على بال من أنعم عليه ملك من الملوك بأصناف النعم ، أنه مطالب له بالشكر عليها .
ومنع
الأشعرية لزوم الخطور الموجب للخوف ، فلا يتعين وجوده .
وأجيب عن هذا المنع : بأنه غير متوجه ؛ لأن ما ذكره القائلون بالوجوب هو منع ، فإن أرادوا بهذا المنع لذلك المنع أن سنده لا يصلح للسندية ، فذلك منع مجرد للسند ، وهو غير مقبول ، وعلى التسليم فيقال : إنه وإن لم يتعين وجود الخوف ، فهو على خطر الوجود ، بالشكر يندفع احتمال وجوده ، وهو فائدة جليلة .
ثم جاءت الأشعرية بمعارضة لما ذكرته
المعتزلة ، فقالوا : ولو سلم ، فخوف العقاب على الترك معارض بخوف العقاب على الشكر ، إما لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذن المالك ، فإن ما يتصرف به العبد من نفسه وغيرها ملك لله - تعالى ، وإما لأنه كالاستهزاء ، وما مثله إلا كمثل فقير حضر مائدة ملك عظيم ، فتصدق عليه بلقمة ، فطفق يذكرها في المجامع ، ويشكره عليها شكرا كثيرا مستمرا ، فإن ذلك يعد
[ ص: 813 ] استهزاء من الشاكر بالملك ، فكذا هنا ، بل اللقمة بالنسبة إلى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة إلى الرب - سبحانه ، وشكر العبد أقل قدرا في جنب الله من شكر الفقير للملك على الصفة المذكورة .
ولا يخفاك أن هذه المعارضة الركيكة ، والتمثيل الواقع في غاية من السخف ، يندفعان بما قصه الله - سبحانه - علينا في الكتاب العزيز ، من تعظيم شأن ما أنعم به على عباده ، وكرر ذلك تكريرا كثيرا ، فإن كان ذلك مطابقا للواقع سقط ما جاءوا به ، وإن كان غير مطابق للواقع فهو التكذيب البحت والرد الصراح .
ثم لا يخفى على أحد أن النعمة التي وجب الشكر عليها هي على غاية العظمة عند الشاكر ، فإن أولها وجوده ، ثم تكميل آلاته ، ثم إفاضة النعم عليه على اختلاف أنواعها فكيف يكون شكره عليها استهزاء .
وقد اعترض جماعة من المحققين على ما ذكره
الأشاعرة في هذه المسألة ، منهم
ابن الهمام في تحريره فقال : ولقد طال رواج هذه الجملة على تهافتها ، يعني جملة الاستدلال ، والاعتراض .
ثم ذكر أن حكم
المعتزلة بتعلق الوجوب والحرمة بالفعل قبل البعثة تابع لعقلية ما في الفعل ، فإذا عقل فيه حسن يلزم بترك ما هو فيه القبح كحسن شكر المنعم المستلزم تركه القبح الذي هو الكفران بالضرورة فقد أدرك العقل حكم الله الذي هو وجوب الشكر قطعا ، وإذا ثبت الوجوب بلا مرد ، لم يبق لنا حاجة في تعيين فائدة بل نقطع بثبوتها في نفس الأمر ، علم عينها أولا ، ولو منعوا يعني
الأشعرية اتصاف الشكر بالحسن واتصاف الكفران بالقبح لم تصر المسألة على التنزل معنى ، والمفروض أنها مسألة على التنزل .
ثم ذكر أن انفصال
المعتزلة بدفع ضرر خوف العقاب إنما يصح حاملا على العمل الذي يتحقق به الشكر ، وهو بعد العلم بوجوب الشكر بالطريق الموصلة إليه وهو محل النزاع .
[ ص: 814 ] ثم قال : وأما معارضتهم بأنه يشبه الاستهزاء فيقضي منه العجب . قال شارحه : لغرابته وسخافته ، كيف ويلزم منه انسداد باب الشكر قبل البعثة وبعدها . انتهى .
ومن كان مطلعا على مؤلفات
المعتزلة لا يخفى عليه أنهم إنما ذكروا هذا الدليل للاستدلال به على وجوب النظر ، فقالوا : من رأى النعم التي هو فيها ، دقيقها وجليلها ، وتواتر أنواعها ، خشي أن لها صانعا يحق له الشكر ، إذ وجوب شكر كل منعم ضروري ومن خشي ذلك خاف ملاما على الإخلال وتبعه على الإخلال ضرر عاجل ، والنظر كاشف للحيرة دافع لذلك الخوف فمن أخل بالنظر حسن في العقل ذمه ، وهو معنى الوجوب ، فإذا نظر زال ذلك الضرر فيلزمه فائدة الأمن من العقاب ، على التقديرين إما بأن يشكر ، وإما بأن يكشف له بالنظر أنه لا منعم ، فلا عقاب .
هذا حاصل كلامهم في الوجوب العقلي .
وأما الوجوب الشرعي : فلا نزاع فيه بينهم ، وقد صرح الكتاب العزيز بأمر العباد بشكر ربهم وصرح أيضا بأنه سبب في زيادة النعم . والأدلة القرآنية والأدلة النبوية في هذا كثيرة جدا ، وحاصلها فوز الشاكر بخير الدنيا والآخرة ، وفقنا الله تعالى لشكر نعمه ، ودفع عنا جميع نقمه .
( قال المؤلف - رحمه الله ) :
وإلى هنا انتهى ما أردنا جمعه ، بقلم مؤلفه المفتقر إلى نعم ربه ، الطالب منه مزيدها عليه ودوامها له ،
محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله ذنوبه .
وكان الفراغ منه يوم الأربعاء ، الرابع من شهر محرم سنة 1231 والحمد لله أولا وآخرا ، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وآله وصحبه .