[ ص: 150 ] البحث السادس : في تعارض القول والفعل
إذا وقع
التعارض بين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله ، وفيه صور .
وبيان ذلك : أنه ينقسم أولا إلى ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يعلم تقدم القول على الفعل .
ثانيها : أن يعلم تقدم الفعل على القول .
ثالثها : أن يجهل التاريخ .
وعلى الأولين إما أن يتعقب الثاني الأول ، بحيث لا يتخلل بينهما زمان أو يتراخى أحدهما عن الآخر ، وهذان قسمان إلى الثلاثة المتقدمة يكون الجميع خمسة أقسام .
وعلى الثلاثة الأول إما أن يكون القول عاما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته ، أو خاصا به ، أو خاصا بأمته ، فتكون الأقسام ثمانية .
ثم الفعل إما أن يدل دليل على وجوب تكراره في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ووجوب تأسي الأمة به ، أو لا يدل دليل على واحد منهما ، أو يقوم دليل على التكرار دون التأسي ، أو يقوم دليل على التأسي دون التكرار ، فإذا ضربت الأقسام الأربعة وهي التي يعلم فيها تعقب الفعل للقول وتراخيه عنه ، وتعقب القول للفعل وتراخيه عنه في الثلاثة التي ينقسم إليها القول ، من كونه يعم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته ، أو يخصه ، أو يخص أمته ، حصل منها اثنا عشر قسما ، نضربها في أقسام الفعل الأربعة بالنسبة إلى التكرار والتأسي ، أو عدمهما ، أو وجود أحدهما دون الآخر ، فيحصل ثمانية وأربعون قسما ، وقد قيل : إن الأقسام تنتهي إلى ستين قسما ، وما ذكرناه أولى ، وأكثر هذه الأقسام غير موجود في السنة ، فلنتكلم هاهنا على ما يكثر وجوده فيها وهي أربعة عشر قسما .
الأول : أن يكون القول مختصا به ، مع عدم وجود دليل على التكرار والتأسي ، وذلك نحو أن يفعل صلى الله عليه وآله وسلم فعلا ، ثم يقول بعده : لا يجوز لي مثل هذا
[ ص: 151 ] الفعل ، فلا تعارض بين القول والفعل ; لأن القول في هذا الوقت لا تعلق له بالفعل في الماضي ، إذ الحكم يختص بما بعده ، ولا حكم في المستقبل ، إذ لا حكم للفعل في المستقبل ; لأن الغرض عدم التكرار له .
القسم الثاني : أن يتقدم القول ، مثل أن يقول : لا يجوز لي الفعل في وقت كذا ، ثم يفعله فيه ، فيكون الفعل ناسخا لحكم القول .
القسم الثالث : أن يكون القول خاصا به ، ويجهل التاريخ ، فلا تعارض في حق الأمة ، وأما في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ففيه خلاف ، وقد رجح الوقف .
القسم الرابع : أن يكون القول مختصا بالأمة ، وحينئذ فلا تعارض ; لأن القول والفعل لم يتواردا على محل واحد .
القسم الخامس : أن يكون القول عاما له وللأمة ، فيكون الفعل على تقدير تأخره مخصصا له من عموم القول ، وذلك كنهيه عن الصلاة بعد العصر ، ثم صلاته الركعتين بعدها قضاء لسنة الظهر ، ومداومته عليهما . وإلى ما ذكرنا من اختصاص الفعل به صلى الله عليه وآله وسلم ذهب الجمهور ، قالوا : وسواء تقدم الفعل أو تأخر .
وقال الأستاذ
أبو منصور : إن تقدم الفعل ؛ دل على نسخه القول عند القائلين بدخول المخاطب في عموم خطابه ، هذا إذا كان القول شاملا له صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الظهور ، كأن يقول : لا يحل لأحد ، أو لا يجوز لمسلم أو لمؤمن ، وأما إذا كان متناولا له على سبيل التنصيص ، كأن يقول : لا يحل لي ولا لكم ، فيكون الفعل ناسخا للقول في حقه صلى الله عليه وآله وسلم لا في حقنا فلا تعارض .
[ ص: 152 ] القسم السادس : أن يدل دليل على تكرار الفعل ، وعلى وجوب التأسي فيه ، ويكون القول خاصا به ، وحينئذ فلا معارضة في حق الأمة ، وأما في حقه فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ ، فإن جهل التاريخ ، فقيل : يؤخذ بالقول في حقه ، وقيل : بالفعل ، وقيل : بالوقف .
القسم السابع : أن يكون القول خاصا بالأمة ، مع قيام دليل التأسي والتكرار في الفعل ، فلا تعارض في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما في حق الأمة ، فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ ، وإن جهل التاريخ ، فقيل : يعمل بالفعل ، وقيل : بالقول ، وهو الراجح ; لأن دلالته أقوى من دلالة الفعل ، وأيضا هذا القول الخاص أخص من الدليل العام الدال على التأسي . والخاص مقدم على العام ، ولم يأت من قال بتقدم الفعل بدليل يصلح للاستدلال به .
القسم الثامن : أن يكون القول عاما له وللأمة ، مع قيام الدليل على التكرار والتأسي ، فالمتأخر ناسخ في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك في حقنا ، وإن جهل التاريخ ، فالراجح تقدم القول لما تقدم .
القسم التاسع : أن يدل الدليل على التكرار في حقه صلى الله عليه وآله وسلم دون التأسي به ، ويكون القول خاصا بالأمة ، وحينئذ فلا تعارض أصلا ; لعدم التوارد على محل واحد .
القسم العاشر : أن يكون خاصا به صلى الله عليه وآله وسلم مع قيام الدليل على عدم التأسي به ، فلا تعارض أيضا .
القسم الحادي عشر : أن يكون القول عاما له وللأمة ، مع عدم قيام الدليل على التأسي به في الفعل ، فيكون الفعل مخصصا له من العموم ، ولا تعارض بالنسبة إلى الأمة ; لعدم وجود دليل يدل على التأسي به ، وأما إذا جهل التاريخ ، فالخلاف في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ، كما تقدم في ترجيح القول على الفعل ، أو العكس ، أو الوقف .
القسم الثاني عشر : إذا دل الدليل على التأسي دون التكرار ، يكون القول مخصصا به ، فلا تعارض في حق الأمة ، وأما في حقه ، فإن تأخر القول فلا تعارض ، وإن تقدم فالفعل ناسخ في حقه ، وإن جهل فالمذاهب الثلاثة في حقه ، كما تقدم .
القسم الثالث عشر : أن يكون القول خاصا بالأمة ولا تعارض في حقه صلى الله
[ ص: 153 ] عليه وآله وسلم ، وأما في حق الأمة ، فالمتأخر ناسخ لعدم الدليل على التأسي .
القسم الرابع عشر : أن يكون القول عاما له وللأمة ، مع قيام الدليل على التأسي دون التكرار ، ففي حق الأمة المتأخر ناسخ ، وأما في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن تقدم الفعل فلا تعارض ، وإن تقدم القول فالفعل ناسخ .
ومع جهل التاريخ ، فالراجح القول في حقنا ، وفي حقه صلى الله عليه وآله وسلم ; لقوة دلالته وعدم احتماله ، ولقيام الدليل هاهنا على عدم التكرار .
واعلم أنه لا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي بل يكفي ما ورد في الكتاب العزيز من قوله سبحانه :
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، وكذلك سائر الآيات الدالة على الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه ، ولا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي به في كل فعل من أفعاله ، بل مجرد فعله لذلك الفعل بحيث يطلع عليه غيره من أمته ينبغي أن يحمل على قصد التأسي به ، إذا لم يكن من الأفعال التي لا يتأسى به فيها ، كأفعال الجبلة كما قررناه في البحث الذي قبل هذا البحث .