[ ص: 54 ] البحث الثاني في الحاكم
اعلم أنه لا خلاف في كون
الحاكم الشرع بعد البعثة ، وبلوغ الدعوة .
وأما قبل ذلك ، فقالت
الأشعرية : لا يتعلق له سبحانه حكم بأفعال المكلفين فلا يحرم كفر ، ولا يجب إيمان .
وقالت
المعتزلة : إنه يتعلق له تعالى حكم بما أدرك العقل فيه صفة حسن ، أو قبح
[ ص: 55 ] لذاته ، أو لصفته ، أو لوجوه واعتبارات على اختلاف بينهم في ذلك . قالوا : والشرع كاشف عما أدركه العقل قبل وروده .
وقد اتفق
الأشعرية والمعتزلة على أن العقل يدرك الحسن والقبح في شيئين :
الأول : ملاءمة الغرض للطبع ، ومنافرته له ، فالموافق حسن عند العقل ، والمنافر قبيح عنده .
الثاني : صفات الكمال والنقص ، فصفات الكمال حسنة عند العقل ، وصفات النقص قبيحة عنده .
ومحل النزاع بينهم كما أطبق عليه جمهور المتأخرين وإن كان مخالفا لما كان عند كثير من المتقدمين ، هو
كون الفعل متعلق المدح والثواب والذم والعقاب آجلا وعاجلا .
فعند
الأشعرية ومن وافقهم أن ذلك لا يثبت إلا بالشرع ، وعند
المعتزلة ومن وافقهم أن ذلك ليس لكون الفعل واقعا على وجه مخصوص لأجله يستحق فاعله الذم .
قالوا : وذلك الوجه قد يستقل العقل بإدراكه ، وقد لا يستقل ، أما الأول : فالعقل يعلم بالضرورة حسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضار ، ويعلم نظرا حسن الصدق الضار ، وقبح الكذب النافع ، وأما الثاني : فكحسن صوم آخر يوم من رمضان ، وقبح صوم الذي بعده ، فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك ، لكن الشرع لما ورد علمنا الحسن والقبح فيهما .
وأجيب : بأن دخول هذه القبائح في الوجود ، إما أن يكون على سبيل الاضطرار ، أو على سبيل الاتفاق ، وعلى التقديرين فالقول بالقبح باطل .
بيان الأول : أن فاعل القبيح ، إما أن يكون متمكنا من الترك ، أو لا يكون ، فإن لم يتمكن من الترك فقد ثبت الاضطرار ، وإن تمكن من الترك ، فإما يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح ، أو لا يتوقف ، إن لم يتوقف فاتفاقي لا اختياري ; لعدم الإرادة ، وإن توقف فذلك المرجح ، إما أن يكون من العبد ، أو من غيره ، أو لا منه ولا من غيره ، فالأول محال ; لأن الكلام فيه كما في الأول ، فيلزم التسلسل ، وهو محال ، والثاني يقال فيه : إن عند حصول ذلك المرجح ، إما أن يجب وقوع الأثر أو لا ، فإن وجب فقد ثبت الاضطرار ; لأن قبل وجود هذا المرجح كان الفعل ممتنع
[ ص: 56 ] الوقوع ، وعند وجوده صار واجب الوقوع ، وليس وقوع هذا المرجح بالعبد ألبتة ، فلم يكن للعبد تمكن في شيء من الفعل والترك ، ولا معنى للاضطرار إلا ذلك ، وإن لم يجب حصول هذا المرجح لا يمتنع وجود الفعل تارة وعدمه أخرى ، فترجيح جانب الوجود على جانب العدم ، إما أن يتوقف على انضمام مرجح إليه أو لا يتوقف ، إن توقف لم يكن الحاصل قبل ذلك مرجحا تاما ، وقد فرضناه مرجحا تاما ؛ هذا خلف ، وإن لم يتوقف فلا ترجيح ألبتة وإلا لعاد القسم الأول .
وإن كان حصول ذلك المرجح لا من العبد ، ولا من غير العبد ، فحينئذ يكون واقعا لا لمؤثر فيكون اتفاقيا .
ورد هذا الجواب : بأن القادر يرجح الفاعلية على التاركية من غير مرجح .
وأجيب عن هذا الرد : بأن ترجيح القادر إن كان له مفهوم زائد على كونه قادرا ، كان تسليما لكون رجحان الفاعلية على التاركية لا يمكن إلا عند انضمام آخر إلى القادرية ، فيعود الكلام الأول ، وإن لم يكن له مفهوم زائد لم يبق لقولكم : القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا مجرد أن صفة القادرية مستمرة في الأزمان كلها ، ثم إنه يوجد الأثر في بعض تلك الأزمنة دون بعض ، من غير أن يكون ذلك القادر قد رجحه ، وقصد إيقاعه ، ولا معنى للاتفاق إلا ذلك . ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف ; لاستلزامه نفي المرجح مطلقا ، والعلم الضروري حاصل لكل عاقل بأن الظلم والكذب والجهل قبيحة عند العقل ، وأن العدل والصدق والعلم حسنة عنده ، لكن حاصل ما يدركه العقل من قبح هذا القبيح وحسن هذا الحسن هو أن فاعل الأول يستحق الذم ، وفاعل الثاني يستحق المدح ، وأما كون الأول متعلقا للعقاب الأخروي ، والثاني متعلقا للثواب الأخروي فلا .
واحتج المثبتون
للتحسين والتقبيح العقليين : بأن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومين قبل الشرع ، لاستحال أن يعلما عند وروده ; لأنهما إن لم يكونا معلومين قبله فعند وروده بهما يكون واردا بما لا يعقله السامع ولا يتصوره ، وذلك محال ، فوجب أن يكونا معلومين قبل وروده .
وأجيب : بأن الموقوف على الشرع ليس تصور الحسن والقبح ، فإنا قبل الشرع نتصور ماهية
[ ص: 57 ] ترتب العقاب والثواب والمدح والذم على الفعل ، ونتصور عدم هذا الترتب ، فتصور الحسن والقبح لا يتوقف على الشرع ، إنما المتوقف عليه هو التصديق ، فأين أحدهما من الآخر ؟
واحتج المثبتون أيضا : بأنه لو لم يكن الحكم بالحسن والقبح إلا بالشرع لحسن من الله - سبحانه - كل شيء ، ولو حسن منه كل شيء لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب ، ولو حسن منه ذلك لما أمكننا التمييز بين النبي والمتنبئ ، وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع .
وأجيب : بأن الاستدلال بالمعجز على الصدق مبني على أن الله إنما خلق ذلك المعجز للصدق ، وكل من صدقه الله فهو صادق ، وبأن العقل يمنع من خلق المعجز على يد الكاذب مطلقا ; لأن خلقه عند الدعوى يوهم أن المقصود منه التصديق ، فلو كان المدعي كاذبا لكان ذلك إيهاما لتصديق الكاذب ، وأنه قبيح ، والله لا يفعل القبيح .
واحتج المثبتون أيضا : بأنه لو حسن من الله كل شيء ، لما قبح منه الكذب ، وعلى هذا لا يبقى اعتماد على وعده ووعيده .
وأجيب : بأن هذا وارد عليهم ; لأن الكذب قد يحسن في مثل الدفع به عن قتل إنسان ظلما ، وفي مثل من توعد غيره بأن يفعل به ما لا يجوز من أنواع الظلم ، ثم ترك ذلك فإنه هنا يحسن الكذب ويقبح الصدق .
ورد : بأن الحكم قد يتخلف عن المقتضي المانع ، ولا اعتبار بالنادر . على أنه يمكن أن يقع الدفع لمن أراد أن يفعل ما لا يحل بإيراد المعاريض ، فإن فيها مندوحة عن الكذب .
واحتج المثبتون أيضا : بأنه لو قيل للعاقل إن صدقت أعطيناك دينارا ، وإن كذبت أعطيناك دينارا ، فإنا نعلم بالضرورة أن العاقل يختار الصدق ، ولو لم يكن حسنا لما اختاره .
وأجيب : بأنه إنما يترجح الصدق على الكذب في هذه الصورة ; لأن أهل العلم اتفقوا على قبح الكذب ، وحسن الصدق لما أن نظام العالم لا يحصل إلا بذلك ، والإنسان لما نشأ على هذا الاعتقاد ، واستمر عليه ، لا جرم ترجح الصدق عنده على الكذب .
ورد هذا : بأن كل فرد من أفراد الإنسان إذا فرض نفسه خالية عن الإلف والعادة والمذهب والاعتقاد ، ثم عرض عليها عند هذا الفرض هذه القضية وجدها جازمة بترجيح الصدق على الكذب .
وبالجملة : فالكلام في هذا البحث يطول ، وإنكار مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسنا أو قبيحا مكابرة ومباهتة ، وأما إدراكه لكون ذلك الفعل الحسن متعلقا للثواب ،
[ ص: 58 ] وكون ذلك الفعل القبيح متعلقا للعقاب فغير مسلم .
وغاية ما تدركه العقول أن هذا الفعل الحسن يمدح فاعله ، وهذا الفعل القبيح يذم فاعله ، ولا تلازم بين هذا وبين كونه متعلقا للثواب والعقاب .
ومما يستدل به على هذه المسألة في الجملة قوله سبحانه :
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا - وقوله -
ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى - وقوله -
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ونحو هذا .