فصل : في طرق معرفة العدالة
وإذ قد تقرر لك أن العدالة شرط فلا بد من معرفة الطريقة التي تثبت بها ، وأقوى
الطرق المفيدة لثبوتها : الاختبار في الأحوال بطول الصحبة والمعاشرة والمعاملة ، فإذا لم
[ ص: 217 ] يعثر عليه على فعل كبيرة ، ولا على ما يقتضي التهاون بالدين والتساهل في الرواية ، فهو ثقة ، وإلا فلا .
ثم
التزكية ، وهي إما أن تكون بخبر عدلين مع ذكر السبب ، ولا خلاف أن ذلك تعديل أو بدون ذكره ، والجمهور على قبوله ، ويكفي أن يقول : هو عدل .
قال
القرطبي : لا بد أن يقول هو عدل رضي ، ولا يكفي الاقتصار على أحدهما ، ولا وجه لهذا ، بل الاقتصار على أحدهما ، أو على ما يفيد مفاد أحدهما يكفي عند من يقبل الإجمال ، وأما التعديل من واحد فقط ، فقيل : لا يقبل من غير فرق بين الرواية والشهادة ، وحكاه القاضي
أبو بكر عن أكثر الفقهاء . قال
الأبياري وهو قياس مذهب
مالك ، وقيل : يقبل .
قال القاضي : والذي يوجبه القياس وجوب قبول كل عدل مرضي ، ذكرا أو أنثى ، حرا أو عبدا ، شاهدا أو مخبرا ، وقيل :
يشترط في الشهادة اثنان ، ويكفي في الرواية واحد ، كما يكفي في الأصل ; لأن الفرع لا يزيد على الأصل ، وهو قول الأكثرين ، كما حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي والصفي الهندي . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12795ابن الصلاح : وهو الصحيح الذي اختاره
الخطيب وغيره ; لأن
العدد لا يشترط في قبول الخبر ، فلا يشترط في جرح رواته ، ولا في تعديلهم بخلاف الشهادة ، وأطلق في المحصول قبول
تزكية المرأة ، وحكى القاضي
أبو بكر عن أكثر الفقهاء أنه لا يقبل النساء في التعديل ، لا في الشهادة ، ولا في الرواية ، ثم اختار قبول قولها فيهما ، كما تقبل روايتها وشهادتها . انتهى .
ولا بد من تقييد هذا بكونها ممن يتمكن من اختبار أحوال من زكته ، كأن تكون ممن تجوز لها مصاحبته والاطلاع على أحواله ، أو يكون الذي وقعت تزكية المرأة امرأة مثلها ، ويدل على هذا سؤاله صلى الله عليه وآله وسلم للجارية في قصة الإفك عن حال
nindex.php?page=showalam&ids=25أم المؤمنين عائشة .
[ ص: 218 ] وقد تكون التزكية بأن يحكم حاكم بشهادته ، كذا قال
الجويني والقاضي أبو بكر وغيرهما ، قال القاضي : وهو أقوى من تزكيته باللفظ ، وحكى
الصفي الهندي الاتفاق على هذا قال : لأنه لا يحكم بشهادته إلا وهو عدل عنده ، وقيده
nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي بما إذا لم يكن الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب ، قال
ابن دقيق العيد : وهذا إذا منعنا حكم الحاكم بعلمه ، أما إذا أجزناه فعلمه بالشهادة ظاهرا يقوم معه احتمال أنه حكم بعلمه باطنا .
ومن طرق التزكية
الاستفاضة فيمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة ، فإن ذلك يكفي .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12795ابن الصلاح : وهذا هو الصحيح من مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وعليه الاعتماد في أصول الفقه ، وممن ذكره من المحدثين
الخطيب ونقله عن
مالك وشعبة والسفيانين وأحمد nindex.php?page=showalam&ids=17336وابن معين nindex.php?page=showalam&ids=16604وابن المديني وغيرهم ، قال القاضي
أبو بكر : الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية متى لم يكونا مشهورين بالعدالة والرضا ، وكان أمرهما مشكلا ملتبسا ، وصرح بأن الاستفاضة أقوى من تزكية الواحد والاثنين .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : كل حامل علم معروف العناية به ، فهو عدل محمول في أمره على العدالة حتى يتبين جرحه ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم
يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتبعه على ذلك جماعة من
المغاربة ، وهذا الحديث رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14798العقيلي في ضعفائه من جهة
ابن رفاعة [ ص: 219 ] السلامي عن
إبراهيم بن عبد الرحمن العذري ، وقال لا يعرف إلا به وهو مرسل أو معضل ضعيف ،
وإبراهيم قال فيه
القطان : لا نعرفه ألبتة في شيء من العلم غير هذا ، وقال
الخلال في كتاب العلل : سئل
أحمد عن هذا الحديث ، فقيل له : ترى أنه موضوع ؟ فقال : لا هو صحيح ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12795ابن الصلاح : وفيما قاله اتساع غير مرضي .
ومن طرق التزكية العمل بخبر الراوي ، حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=11872أبو الطيب الطبري عن الشافعية ، ونقل فيه
nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي الاتفاق ، واعترض عليه بأنه قد حكى الخلاف فيه القاضي في التقريب
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي في المنخول .
وقال
الجويني فيه أقوال :
أحدها : أنه تعديل له .
والثاني : أنه ليس بتعديل .
والثالث : - قال وهو الصحيح - أنه إن أمكن أنه عمل بدليل آخر ، ووافق عمله الخبر الذي رواه فعمله ليس بتعديل ، وإن كان العمل بذلك الخبر من غير أن يمكن تجويز أنه عمل بدليل آخر فهو تعديل ، واختار هذا القاضي في التقريب ، قال : وفرق بين قولنا عمل بالخبر وبين قولنا بموجب الخبر ، فإن الأول يقتضي أنه مستنده ، والثاني لا يقتضي ذلك ، لجواز أن يعمل به لدليل آخر .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي إن أمكن حمل عمله على الاحتياط فليس بتعديل ، وإلا فهو تعديل ، وكذا قال
[ ص: 220 ] الكيا الطبري .
ويشترط في هذه الطريقة أن لا يوجد ما يقوي ذلك الخبر ، فإن وجد ما يقويه من عموم أو قياس ، وعلمنا أن العمل بخبره لم يكن لاعتضاده بذلك فليس بتعديل .
ومن طريق التزكية : أن يروي عنه من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل nindex.php?page=showalam&ids=17293كيحيى بن سعيد القطان وشعبة ومالك ، فإن ذلك تعديل كما اختاره
الجويني وابن القشيري nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي nindex.php?page=showalam&ids=14552والآمدي والصفي الهندي وغيرهم ، قال
الماوردي : هو قول الحذاق ، ولا بد في هذه الطريقة من أن يظهر أن الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل ظهورا بينا إما بتصريحه بذلك أو بتتبع عادته ، بحيث لا تختلف في بعض الأحوال ، فإن لم يظهر ذلك ظهورا بينا فليس بتعديل ، فإن كثيرا من الحفاظ يروون أحاديث الضعفاء للاعتبار ، ولبيان حالها ، ومن هذه الطريقة قولهم رجاله رجال الصحيح ، وقولهم : روى عنه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم أو أحدهما .