إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
البحث الحادي عشر : في الإجماع السكوتي

وهو أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول ، وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر فيسكتون ، ولا يظهر منهم اعتراف ولا إنكار ، وفيه مذاهب :

الأول : أنه ليس بإجماع ولا حجة ، قاله داود الظاهري وابنه والمرتضى ، وعزاه القاضي إلى الشافعي ، واختاره ، وقال : إنه آخر أقوال الشافعي .

[ ص: 265 ] وقال الغزالي والرازي والآمدي إنه نص الشافعي في الجديد ، وقال الجويني إنه ظاهر مذهبه .

والقول الثاني : أنه إجماع وحجة ، وبه قال جماعة من الشافعية ، وجماعة من أهل الأصول ، وروي نحوه عن الشافعي .

قال الأستاذ أبو إسحاق : اختلف أصحابنا في تسميته إجماعا ، مع اتفاقهم على وجوب العلم به .

وقال أبو حامد الإسفرائيني : هو حجة مقطوع بها وفي تسميته إجماعا وجهان : أحدهما المنع ، وإنما هو حجة كالخبر ، والثاني يسمى إجماعا ، وهو قولنا . انتهى .

واستدل القائلون بهذا القول ، بأن سكوتهم ظاهر في الموافقة ، إذ يبعد سكوت الكل مع اعتقاد المخالفة عادة ، فكان ذلك محصلا للظن بالاتفاق .

وأجيب : باحتمال أن يكون سكوت من سكت على الإنكار لتعارض الأدلة عنده ، أو لعدم حصول ما يفيده الاجتهاد في تلك الحادثة إثباتا ، أو نفيا ، أو للخوف على نفسه ، أو ذلك من الاحتمالات .

القول الثالث : أنه حجة ، وليس بإجماع ، قاله أبو هاشم وهو أحد الوجهين عند الشافعي كما سلف ، وبه قال الصيرفي ، واختاره الآمدي . قال الصفي الهندي : ولم يصر أحد إلى عكس هذا القول ، يعني أنه إجماع لا حجة ، ويمكن القول به كالإجماع المروي بالأحاديث عند من لم يقل بحجيته .

القول الرابع : أنه إجماع بشرط انقراض العصر ; لأنه يبعد مع ذلك أن يكون السكوت لا عن رضا ، وبه قال أبو علي الجبائي وأحمد في رواية عنه ، ونقله ابن فورك في كتاب عن أكثر أصحاب الشافعي ، ونقله الأستاذ أبو طاهر البغدادي عن الحذاق منهم ، واختاره ابن القطان والروياني . قال الرافعي : إنه أصح الأوجه عند أصحاب الشافعي ، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع إنه المذهب ، قال : فأما قبل [ ص: 266 ] الانقراض ففيه طريقان ، إحداهما : أنه ليس بحجة قطعا ، والثانية : على وجهين .

القول الخامس : أنه إجماع إن كان فتيا لا حكما ، وبه قال ابن أبي هريرة ، كما حكاه عنه الشيخ أبو إسحاق والماوردي ، والرافعي ، وابن السمعاني ، والآمدي ، وابن الحاجب .

ووجه هذا القول : أنه لا يلزم من صدوره عن الحاكم أن يكون قاله على وجه الحكم .

وقيل : وجهه أن الحاكم لا يعترض عليه في حكمه ، فلا يكون السكوت دليل الرضا ، ونقل ابن السمعاني عن ابن أبي هريرة أنه احتج لقوله هذا بقوله : إنا نحضر مجلس بعض الحكام ، ونراهم يقضون بخلاف مذهبنا ، ولا ننكر ذلك عليهم ، فلا يكون سكوتنا رضا منا بذلك .

القول السادس : أنه إجماع إن كان صادرا عن حكم ، لا كان صادرا عن فتيا ، قاله أبو إسحاق المروزي ، وعلل ذلك بأن الأغلب أن الصادر من الحاكم يكون عن مشاورة ، وحكاه ابن القطان عن الصيرفي .

القول السابع : أنه إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج ، كان إجماعا ، وإلا فهو حجة ، وفي كونه إجماعا وجهان ، حكاه الزركشي ولم ينسبه إلى قائل .

القول الثامن : إن كان الساكتون أقل كان إجماعا ، وإلا فلا ، قاله أبو بكر الرازي وحكاه شمس الأئمة السرخسي عن الشافعي . قال الزركشي وهو غريب ، لا يعرفه أصحابه .

القول التاسع : إن كان في عصر الصحابة كان إجماعا ، وإلا فلا ، قال الماوردي في الحاوي والروياني في البحر إن كان عصر الصحابة فإذا قال الواحد منهم قولا ، أو حكم به فأمسك الباقون ، فهذا ضربان :

أحدهما : مما يفوت استدراكه كإراقة دم واستباحة فرج ، فيكون إجماعا ; لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه ، إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار منكر ، وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة ; لأن الحق لا يخرج عن غيرهم ، وفي كونه إجماعا يمنع الاجتهاد وجهان لأصحابنا : أحدهما يكون إجماعا لا يسوغ معه الاجتهاد ، والثاني لا يكون إجماعا سواء كان القول فتيا أو حكما على الصحيح .

القول العاشر : أن ذلك إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه ، فإنه يكون السكوت إجماعا ، وبه قال إمام الحرمين الجويني [ ص: 267 ] قال الغزالي في المنخول : المختار أنه لا يكون حجة إلا في صورتين :

أحدهما : سكوتهم ، وقد قطع بين أيديهم قاطع لا في مظنة القطع ، والدواعي تتوفر على الرد عليه .

الثاني : ما يسكتون عليه على استمرار العصر ، وتكون الواقعة بحيث لا يبدي أحد خلافا ، فأما إذا حضروا مجلسا ، فأفتى واحد وسكت آخرون ، فذلك اعتراض لكون المسألة مظنونة ، والأدب يقتضي أن لا يعترض على القضاة والمفتين .

القول الحادي عشر : أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا ، وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول ، واختار هذا الغزالي في المستصفى وقال بعض المتأخرين : إنه أحق الأقوال ; لأن إفادة القرائن العلم بالرضا كإفادة النطق له ، فيصير كالإجماع القطعي .

القول الثاني عشر : أنه يكون حجة قبل استقرار المذاهب ، لا بعدها ، فإنه لا أثر للسكوت لما تقرر عند أهل المذاهب من عدم إنكار بعضهم على بعض إذا أفتى أو حكم بمذهبه ، مع مخالفته لمذاهب غيره ، وهذا التفصيل لا بد منه على جميع المذاهب السابقة . هذا في الإجماع السكوتي إذا كان سكوتا عن قول .

مطلب

الاتفاق على عمل من دون صدور قول

وأما لو اتفق أهل الحل والعقد على عمل ، ولم يصدر منهم قول ، واختلفوا في ذلك ، فقيل : إنه كفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ; لأن العصمة ثابتة لإجماعهم كثبوبتها للشارع ، فكانت أفعالهم كأفعاله ، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره ، وقال الغزالي في المنخول : إنه المختار ، وقيل بالمنع ، ونقله الجويني ، عن القاضي ، إذ لا يتصور تواطؤ قوم لا يحصون عددا على فعل واحد من غير أرب ، فالتواطؤ عليه غير ممكن ، وقيل : إنه ممكن ، ولكنه محمول على الإباحة ، حتى يقوم دليل على الندب ، أو الوجوب ، وبه قال الجويني .

[ ص: 268 ] قال القرافي : وهذا تفصيل حسن ، وقيل : إن كل فعل خرج مخرج البيان ، أو مخرج الحكم لا ينعقد به الإجماع ، وبه قال ابن السمعاني .

التالي السابق


الخدمات العلمية