صفحة جزء
[ ص: 172 ] باب ما جاء في حديث أبي بصير الثقفي وأصحابه

أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، قال: أخبرنا أبو بكر بن عتاب العبدي، قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن موسى بن عقبة (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني، قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، وهذا لفظ حديث القطان قال: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انغلب رجل من أهل الإسلام من ثقيف، يقال له أبو بصير بن أسيد بن جارية الثقفي من المشركين، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما مهاجرا، فبعث في أثره الأخنس بن شريق رجلين من بني منقذ: أحدهما زعموا مولى، والآخر من أنفسهم اسمه جحش بن جابر، وكان ذا جلد ورأي في أنفس المشركين، وجعل لهما الأخنس في طلب أبي بصير جعلا، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع أبا بصير إليهما، فخرجا به حتى إذا كانا بذي الحليفة سل جحش سيفه، ثم هزه فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال له أبو بصير : أو [ ص: 173 ] صارم سيفك هذا؟ قال: نعم، قال: ناولنيه أنظر إليه، فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد، ويقال: بل تناول أبو بصير سيف المنقذي بفيه وهو نائم فقطع إساره، ثم ضربه به حتى برد، وطلب الآخر فجمز مذعورا مستخفيا حتى دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: "لقد رأى هذا ذعرا" فأقبل حتى استغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو بصير يتلوه، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: وفت ذمتك، دفعتني إليهما، فعرفت أنهم سيعذبونني ويفتنونني عن ديني، فقتلت المنقذي، وأفلتني هذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه أحد" وجاء أبو بصير بسلبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: خمس يا رسول الله، قال: "إني إذا خمسته لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت" فخرج أبو بصير معه خمسة نفر كانوا قدموا معه مسلمين من مكة حيث قدموا فلم يكن طلبهم أحد ولم ترسل قريش كما أرسلوا في أبي بصير، حتى كانوا بين العيص وذي المروة من أرض جهينة على طريق عيرات قريش مما يلي سيف البحر لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، وكان أبو بصير يكثر أن يقول:


الله ربي العلي الأكبر


من ينصر الله فسوف ينصر


ويقع الأمر على ما يقدر

وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين راكبا أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة المشركين، وكرهوا الثواء بين ظهري قومهم، فنزلوا مع أبي بصير في منزل كريه إلى قريش، فقطعوا به ماداتهم من طريق الشام، وكان أبو بصير - زعموا - وهو في مكانه ذلك يصلي لأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان هو يؤمهم، واجتمع إلى أبي جندل حين سمعوا بقدومه ناس من بني غفار، وأسلم، وجهينة، وطوائف من الناس، حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، وهم مسلمون.

[ ص: 174 ] قال: فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير لا يمر بهم عير قريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب يسألون ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير، وأبي جندل بن سهيل، ومن معه فقدموا عليه، وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه غير حرج أنت فيه، فإن هؤلاء والركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره، فلما كان ذلك من أمرهم على الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضية أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لهم فيما أحبوا وفيما كرهوا من رأي من ظن أن له قوة هي أفضل مما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من العون والكرامة، ولم يزل أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما الذين اجتمعوا إليها هنالك حتى مر بهم أبو العاص بن الربيع - وكان تحته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - من الشام في نفر من قريش، فأخذوهم وما معهم وأسروهم ولم يقتلوا منهم أحدا لصهر أبي العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو العاص يومئذ مشرك، وهو ابن أخت خديجة بنت خويلد لأمها وأبيها، وخلوا سبيل أبي العاص، فقدم المدينة على امرأته وهي بالمدينة عند أبيها كان أذن لها أبو العاص حين خرج إلى الشام أن تقدم المدينة فتكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسر أبو جندل وأبو بصير وما أخذوا لهم، فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخطب الناس، فقال: "إنا صاهرنا ناسا، وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصهر وجدناه، وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش، فأخذهم أبو جندل وأبو بصير، فأسروهم، وأخذوا ما كان معهم، ولم يقتلوا منهم أحدا، وإن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتني أن أجيرهم، فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟" فقال الناس: نعم، فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده من الأسرى رد إليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما من المسلمين أن يرجعوا [ ص: 175 ] إلى بلادهم وأهليهم، ولا يعترضوا لأحد مر بهم من قريش وعيرانها، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - زعموا - على أبي جندل وأبي بصير، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا، وقدم أبو جندل على رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ناس من أصحابه، ورجع سائرهم إلى أهليهم وأمنت عيرات قريش، ولم يزل أبو جندل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد ما أدرك من المشاهد بعد ذلك، وشهد الفتح، ورجع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل معه بالمدينة حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم سهيل بن عمرو المدينة أول خلافة عمر بن الخطاب، فمكث بالمدينة شهرا، ثم خرج مجاهدا إلى الشام بأهله وماله، هو والحارث بن هشام، فاصطحبا جميعا، وخرج أبو جندل مع أبيه سهيل إلى الشام، فلم يزالا مجاهدين بالشام، حتى ماتا جميعا، ومات الحارث بن هشام، فلم يبق من ولده إلا عبد الرحمن بن الحارث، فتزوج عبد الرحمن فاختة بنت عتبة فولدت له أبا بكر بن عبد الرحمن وأكابر ولده.


فهذا حديث أبي جندل وأبي بصير رضي الله عنهما.

التالي السابق


الخدمات العلمية