صفحة جزء
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: أخبرنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس، قال: حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه قال: كنا قوما تجارا، وكانت الحرب قد حضرتنا حتى نهكت أموالنا، فلما كانت الهدنة، هدنة الحديبية، بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نأمن أن وجدنا أمنا فخرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا قد حملني بضاعة، وكان وجه متجرنا من الشام غزة من أرض فلسطين، فخرجنا حتى قدمناها، وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس، فأخرجهم منها ورد عليه صليبه الأعظم، وقد كان استلبوه إياه، فلما بلغه ذلك وكان منزله بحمص من أرض الشام، فخرج منها [ ص: 382 ] يمشي متشكرا إلى بيت المقدس ليصلي فيه، تبسط له البسط، وتطرح له عليها الرياحين، حتى انتهى إلى إيلياء فصلى بها، فأصبح ذات غداة وهو مهموم يقلب طرفه إلى السماء فقالت له بطارقته: أيها الملك لقد أصبحت مهموما؟ فقال: أجل، فقالوا: وما ذاك؟ فقال: أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر، فقالوا: والله ما نعلم أمة من الأمم تختتن إلا يهود وهم تحت يديك في سلطانك، فإن كان قد وقع هذا في نفسك منهم، فابعث في مملكتك كلها فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه فتستريح من هذا الهم، فإنهم في ذلك من رأيهم يدبرونه إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد وقع إليهم، فقال: أيها الملك، إن هذا رجل من العرب من أهل الشاء والإبل يحدثك عن حدث كان ببلاده فسله عنه، فلما انتهى إليه قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده؟ فسأله فقال: رجل من العرب من قريش خرج يزعم أنه نبي وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن، فخرجت من بلادي وهم على ذلك، فلما أخبره الخبر قال: جردوه فإذا هو مختون فقال: هذا والله الذي أريت لا ما تقولون، أعطه ثوبه، انطلق لشأنك، ثم دعا صاحب شرطته فقال له: قلب لي الشام ظهرا وبطنا حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه، فوالله إني وأصحابي لبغزة إذ هجم علينا فسألنا: ممن أنتم؟ فأخبرناه، فساقنا إليه جميعا، فلما انتهينا إليه قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف، يريد هرقل، فلما انتهينا إليه قال: أيكم أمس به رحما؟ فقلت: أنا، قال: أدنوه مني، فأجلسني بين يديه، ثم أمر بأصحابي فأجلسهم خلفي وقال: إن كذب فردوا عليه قال أبو سفيان: فلقد عرفت أن لو كذبت ما ردوا علي، ولكني كنت امرأ سيدا أتكرم وأستحي من الكذب، وعرفت أن أدنى ما يكون في ذلك أن يرووه عني، ثم يتحدثوا به عني بمكة، فلم أكذبه، فقال: أخبرني عن هذا [ ص: 383 ] الرجل الذي خرج فيكم، فزهدت له شأنه، وصغرت له أمره، فوالله ما التفت إلى ذلك مني، وقال: أخبرني عما أسألك عنه من أمره، فقلت: سلني عما بدا لك، فقال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: محضا من أوسطنا نسبا قال: فأخبرني هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به؟ فقلت: لا.

قال: فأخبرني هل كان له ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ فقلت: لا، قال: فأخبرني عن أتباعه من هم؟ فقلت: الأحداث والضعفاء والمساكين، فأما أشراف قومه وذوو الأسنان منهم فلا، قال: فأخبرني عمن يصحبه: أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قلت: قل ما صحبه رجل ففارقه، قال: فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه فقلت: سجال، تدال علينا وتدال عليه، قال: فأخبرني هل يغدر؟ فلم أجد شيئا أغمز فيه إلا هي، قلت: لا، ونحن منه في هدنة ولا نأمن غدره، فوالله ما التفت إليها مني، فأعاد على الحديث فقال: زعمت أنه من أمحضهم نسبا، وكذلك يأخذ الله النبي إذا أخذه، لا يأخذه إلا من أوسط قومه، وسألتك: هل كان له ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ فقلت: لا وسألتك عن أتباعه، فزعمت أنهم الأحداث والمساكين والضعفاء، وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان وسألتك عمن يتبعه: أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت أنه قل من يصحبه فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه وسألتك: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فزعمت أنها سجال، يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك تكون حرب الأنبياء ولهم تكون العاقبة وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر، فلئن كنت صدقتني ليغلبني على ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل قدميه، الحق بشأنك.

فقمت وأنا أضرب بإحدى يدي على الأخرى أقول: أي عباد الله، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، أصبح ملوك بني الأصفر يخافونه في سلطانهم.


التالي السابق


الخدمات العلمية