صفحة جزء
ذكر اختلاف أهل العلم في هذا الباب

واختلفوا في الحكم بالسلب للقاتل فقالت طائفة بظاهر الأخبار التي ذكرناها، قالت: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل كافرا فله سلبه" ، قولا عاما مطلقا أبين البيان على أن ذلك لكل من قتل كافرا في الحرب وغير الحرب في الإقبال والإدبار هاربا أو نذيرا لأصحابه على الوجوه كلها، وليس لأحد أن يخص من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا برأيه ولا يستثني من سننه إلا بسنة مثلها، ومن الحجة البينة مع ما ذكرناه خبر سلمة بن [ ص: 121 ] الأكوع، وهو خبر ليس لمتأول معه تأويل، وذلك أن سلمة قتل القتيل وهو مول هارب .

6111 - حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: حدثنا عكرمة بن عمار قال: حدثنا إياس، أن أباه أخبره قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فجاء رجل على بعير أحمر فأطلق حقبا من حقب البعير، فقيد به البعير، ثم جاء حتى أكل مع القوم، فلما رأى ضعفهم ورقة ظهرهم خرج إلى بعيره فأطلقه وقعد عليه، وهو طليعة الكفار فركضه هاربا، فخرج رجل من أسلم على ناقة فأتبعه، وخرجت أعدو في أثره، حتى أخذت بخطام الجمل فقلت له: إخ فما عدا أن وضع ركبته على الأرض ضربت رأسه، ثم جئت براحلة أقودها عليه رحله وسلبه، فاستقبلني النبي صلى الله عليه وسلم والناس يقولون: من قتله؟ قالوا: سلمة بن الأكوع، قال: "له سلبه أجمع" .

قال أبو بكر: فهذا مقتول هارب غير مقبل، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم لسلمة بالسلب، وفيه دليل على إغفال من قال: لا يكون السلب إلا لمن قتل مشركا مقبلا، إذ سلمة قاتل قتل مدبرا، ويدل على إغفال من قال: إن الذي لا يشك في، أن له سلب المشرك والحرب قائمة; لأن سلمة قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم له بالسلب وصاحبه مدبر غير مقبل وقتله والحرب ليست بقائمة; لأن المقتول إنما قتل منفردا في غير حال الحرب، ليعلم أن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن من قتل قتيلا من العدو على أي جهة قتله بعد أن لا يكون للمقتول أمان أن له سلبه، وهذا قول طائفة من أصحاب [ ص: 122 ] الحديث، وبه قال أبو ثور، واحتج بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فله سلبه" ، وبخبر سلمة هذا .

وقالت طائفة: إنما يكون السلب لمن قتل والحرب قائمة والمشرك مقبل، هذا قول الشافعي، قال الشافعي : " والذي لا شك فيه أن له سلب من قتل الذي يقتل المشرك والحرب قائمة والمشركون يقاتلون، ولقتلهم هكذا مؤنة ليست لهم إذا انهزموا أو انهزم المقتول، ولا أرى أن يعطى السلب إلا من قتل مشركا مقبلا .

وقال أحمد في السلب للقاتل: إنما ذلك في المبارزة لا يكون في الهزيمة .

قال أبو بكر: السلب للقاتل أذن الإمام في ذلك أو لم يأذن فيه على ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قتل كافرا فله سلبه" ، وذلك عام لكل قاتل قتل كافرا من أهل الحرب الذين لا أمان لهم إلى يوم القيامة، كسائر السنن التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم للناس، وقد روينا ذلك عن سعد بن مالك، وابن عمر .

6112 - حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن الأسود بن قيس، (عن) شبر بن علقمة أنه بارز رجلا يوم [ ص: 123 ] القادسية فقتله فأخذ سلبه، فقوم اثني عشر ألفا فأتى به سعد بن مالك فقال: خذه نفله إياه .

6113 - حدثنا محمد بن علي، حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا هشيم، أخبرنا حجاج بن أرطاة، عن نافع ; أن ابن عمر بارز رجلا يوم اليمامة فقتله فسلم له سلبه .

وممن قال بظاهر الحديث أن السلب للقاتل الليث بن سعد، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، وأبو عبيد، قال أحمد، وأبو عبيد : قاله الإمام أو لم يقله، وهكذا قول الشافعي .

وفيه قول سواه: وهو أن لا يكون ذلك لأحد إلا بإذن الإمام، سئل مالك عن رجل قتل رجلا يكون له سلبه بغير إذن الإمام؟ قال: لا يكون ذلك لأحد دون الإمام ولا يكون من الإمام إلا على وجه الاجتهاد ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل قتيلا فله سلبه في غير يوم حنين، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم سن ذلك في غير يوم حنين أو أمر به كان أمرا ثابتا قائما ليس [ ص: 124 ] لأحد فيه قول، ولكن لم يبلغنا النبي صلى الله عليه وسلم بعد يوم حنين عمل به، فكان أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر فلم يبلغنا أنه صنع ذلك .

قال أبو بكر: وقد عارض الشافعي مالكا فقال: أرأيت ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه أعطى من حضر أربعة أخماس الغنيمة، لو قال قائل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم على الاجتهاد، هل كانت الحجة عليه إلا أن يقال: إن إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم على العام والحكم حتى تأتي دلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن قوله خاص فتتبع، فأما أن يتحكم متحكم فيدعي أن قولي النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما حكم والآخر اجتهاد بلا دلالة، فإن جاز هذا خرجت السنن من أيدي الناس، قال: ولو لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوم حنين، أو في آخر غزاة غزاها، أو أولا، لكان أولى ما أخذ به .

وحكى الشافعي عن النعمان أنه " قال في الرجل يقتل الرجل ويأخذ سلبه: لا ينبغي للإمام أن ينفله إياه; لأنه صار في الغنيمة، وقال يعقوب: حدثنا النعمان، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: إذا نفل الإمام أصحابه فقال: من قتل قتيلا فله سلبه; ومن أسر أسيرا فله سلبه، فهو مستقيم جائز وهذا النفل، وأما إذا لم ينفل الإمام شيئا من هذا فلا نفل لأحد دون أحد، والغنيمة كلها بين جميع الجند على ما وقعت عليه المقاسم، وهذا أوضح وأبين من أن يشك فيه أحد من أهل العلم " . [ ص: 125 ]

قال أبو بكر: هذا أوضح في باب الخطإ وأبين من أن يشك فيه أحد له معرفة بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا الأخبار في هذا الباب فيما مضى، والنبي صلى الله عليه وسلم حجة الله على الأولين والآخرين من خلقه .

وكان مكحول يقول: إذا التقى الزحفان فلا نفل، إنما النفل قبل وبعد، وكان نافع مولى ابن عمر يقول: إذا قتل رجل من المسلمين رجلا من الكفار فإن له سلبه إلا أن يكون في معمعة القتال، أو في زحف، فإنه لا يدرى أحد قتل أحدا، وقال الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم : السلب للقاتل ما لم تشتد الصفوف بعضها على بعض، فإذا كان ذلك فلا سلب لأحد، وذكر الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وأبي بكر بن عبد الله، عن مشيختهم: أنه لا سلب في يوم هزيمة العدو، وإذا طلبهم المسلمون، ولا سلب عند ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية