صفحة جزء
ذكر الأسير يرسله العدو على أن يجيئهم بمال أو يبعث به إليهم

واختلفوا في الأسير يشتري نفسه من العدو، على أن يبعث بالثمن إليهم. فقالت طائفة: يفي لهم، كذلك قال الحسن البصري، وقال عطاء بن أبي رباح في هذا: يفي لهم، وكذلك، قال أحمد بن حنبل . وقال الأوزاعي : يرجع إليهم أو يبعث بما قال. وقال الشافعي : إذا خلوه على فداء يدفعه إليهم إلى وقت، وأخذوا عليه [ ص: 255 ] إن لم يدفع الفداء أن يرجع في إسارهم، فلا ينبغي له أن يعود في إسارهم، ولا ينبغي للإمام أن يدعه والعودة، فإن كانوا امتنعوا من تخليته إلا على مال يعطيهموه، فلا يعطهم منه شيئا، لأنه مال أكرهوه على أخذه منه بغير حق، وإن صالحهم مبتدئا على شيء انبغى له أن يؤديه إليهم، إنما أطرح عنه ما استكره .

وقال أصحاب الرأي في ناس من العدو استأمنوا إلى المسلمين على أنه يدخلوا عليهم بالأسارى فيفادوهم، فأمنهم المسلمون على ذلك، فدخلوا بهم، واشتطوا عليهم في الفداء، وقالوا: يفادى كل رجل بمائة ألف، أو أقل أو أكثر، أو تردونهم معنا إلى دار الحرب، فلا ينبغي للإمام أن يرد أسرى المسلمين إلى دار الحرب، ولكن يفادونهم بما يفادى به مثلهم، فإن أبوا أن يرضوا، منعهم أن يخرجوا بهم إلى دار الحرب، وقال لهم: خذوا منا فداء مثلهم، وإلا فأنتم أعلم، إلا أن يعقوب قال: إذا اشتطوا في الفداء فادى الإمام كل واحد منهم بديته، وإن كانوا مكاتبين، أو مدبرين، أو أمهات أولاد، أو عبيد مسلمين، فاداهم بقيمته، فإن أبوا أن يرضوا، لم يزدهم على ذلك، ولم يدعهم أن يخرجوا بهم إلى دار الحرب .

واختلفوا فيه إن أرسلوه على أن يبعث بفداء، أو يرجع إليهم، فكان الأوزاعي يقول: إن وجد فداه، وإلا رجع إليهم .

وروينا هذا القول، عن عطاء بن أبي رباح، وقال: يفي لهم بالعهد. وسئل الأوزاعي عن العدو يخلون سبيل الأسير، ويأخذون عليه العهد [ ص: 256 ] على أن لا يهرب، ولا يقاتل، ويبغيهم شرا فيخلوا سبيله على هذا، هل له أن يهرب؟ قال الأوزاعي : إن كان جعل لهم عهدا فليف بعهده، وإن كانوا لم يأخذوا عليه عهدا، فقدر على أن يهرب فليفعل .

وقال الليث بن سعد: إذا خلوه على أن لا يبرح من عندهم، فأعطاهم على ذلك عهد الله وميثاقه، لا أرى أن يفارقهم، فإن هو فعل كان قد ختر بالعهد .

وكان سفيان الثوري يقول: إن قدر على فداء بعث إليهم، وإن لم يقدر على الفداء فلا يرجع، وإن كان صالحهم على كراع أو سلاح، فلا يبعث به إليهم، ويبعث إليهم بقيمته .

قال أبو بكر: وقد ذكرت قول الشافعي فيما مضى .

6241 - حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة، قال: أخذني وأبي المشركون أيام بدر، فأخذوا علينا عهدا أن لا نعين النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "فوا لهم، ونستعين الله عليهم" .

قال أبو بكر: وهذا الحديث حجة لقول الأوزاعي، ومن وافقه، ومن حجتهم مع هذا الحديث قصة أبي بصير في خبر أهل الحديبية، كان النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم أن يرد من جاء منهم بعد الصلح مسلما، فجاء أبو جندل فرده إلى أبيه، وجاء أبو بصير فرده . [ ص: 257 ]

وقال مالك في الرجل المسلم يؤسر بأرض العدو، يأسره الروم فيوثقوه، ثم يخلونه بعد، فيهرب منهم حتى يأتي المسلمين قال: لا أرى بذلك بأسا، لا أراه أعطاهم عهدا ولا ميثاقا، لا أرى بأسا أن يهرب منهم .

قال أبو بكر: وقوله هذا يدل على أن مذهبه في هذا الباب كمذهب الأوزاعي، وقال يحيى الأنصاري : إذا ائتمنوه على شيء لهم فليؤد أمانته إلى من ائتمنه، وإن كان مرسلا فقدر على أن يتخلص منهم، ويأخذ من أموالهم ما قدر عليه ما لم يؤتمن عليه، فليفعل .

وقال الشافعي : إذا أمنوه، [فأمانهم] إياه أمان لهم منه، وليس له أن يغتالهم ولا يخونهم، فأما الهرب بنفسه فله الهرب، وإن أدرك ليؤخذ، فله أن يدفع عن نفسه، وإن قتل الذي أدركه; لأن طلبه ليؤخذ إحداث من الطالب غير الأمان، فيقتله إن شاء ويأخذ ماله ما لم يرجع عن طلبه.

التالي السابق


الخدمات العلمية