صفحة جزء
مسائل من كتاب الشهادات

وإذا أحضر القوم رجلين وقالوا لهم : لا تشهدوا علينا بما نقول فقالوا : نعم . ثم أقر بعضهم لبعض بشيء معلوم ، ثم سألهم المدعي من القوم الشهادة أدوها ولم يسعهم كتمان الشهادة ، وهذا قول محمد بن سيرين ، و [به] قال مالك بن أنس ، وسفيان الثوري .

قال أبو بكر : وإذا سئل الشاهد شهادة قبله فقال : ليس عندي شهادة ، ثم أدى الشهادة ، وجب قبولها منه ، لأنه قد يذكر بعد النسيان ، وهذا قول سفيان الثوري ، وإسحاق بن راهويه .

وإذا شهد رجلان على رجل أنه أعتق عبده فردت شهادتهما ، ثم اشتراه أحدهما عتق عليه في قول مالك ، والأوزاعي ، وجماعة ، غير أن مالكا قال : وولاؤه للبائع .

وإذا ادعى رجل قبل رجل مالا معلوما ، وجحد المدعى عليه ، فأقام المدعي بينة أن له قبله حقا ، ولم تبين البينة كم الحق ، فإن للمدعي أن يستحلف المدعى عليه ، ولا يجب الحكم ببينة تشهد بشيء غير معلوم ، وهذا على مذهب مالك ، والشافعي ، وأبي ثور . [ ص: 373 ]

وقد اختلف في هذه المسألة ، فروينا عن القاسم بن عبد الرحمن أنه قال في قوم شهدوا على رجل أنه غصب آخر طعاما قال : لا أقضي بشيء حتى يخبروني بكيل ما أخذ من الطعام .

وروينا عن الشعبي أنه قال في رجل ادعى على رجل حقا فجاء بشاهدين ، شهد أحدهما على الحق ، وقال الآخر : لا أحفظ العدة ، فقال الشعبي : تجوز شهادتهما .

وسئل مالك عن الذي يقيم البينة أنه أخذ منه ثوبا ، ويجحد الآخر أن يكون أخذ منه شيئا . فقال : ما كنت أرى بأسا أن يجعل من أوسط الثياب ، ثم يحلف المدعى عليه . قال ابن عبد الحكم محمد : يكون له أقل ثوب ، ويحلف الورثة ما يعلمون أن له أكثر من هذا .

واختلفوا في الشهادات على الصدقات ، والأنساب ، والولاء ، من جهة الخبر الدامغ المستفيض ، فكان مالك بن أنس يقول في الأحباس : يكون من شهد عليها قد ماتوا ، ويأتي قوم من بعدهم يشهدون على السماع أنهم لم يزالوا يسمعون أنها حبس تجاز بما تجاز به الأحباس ، قال مالك : ليس عندنا أحد ممن يشهد على أحباس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا على السماع . قال مالك : شهادة السماع في الأحباس والولاء جائزة ، وعلى الدور . قال مالك : هاهنا دور تعرف لمن أولها بالمدينة قد تداولها قوم بعد قوم بالشراء ، وهي اليوم لغير أهلها . وكان عبد الملك يقول : أقل ما يجوز في الشهادة على السماع أربعة شهداء رجال من أهل العدل أنهم لم يزالوا يسمعون أن هذا [ ص: 374 ] الدار صدقة على بني فلان محبسة عليهم ، ولم يزالوا يسمعون أن هذا الحائط صدقة على بني فلان مما تصدق به عليهم فلان ، ولم يزالوا يسمعون أن فلانا مولى فلان ، قد تواطأ ذلك عندهم ، وكثر سماعهم ، وفشا ذلك عندهم من كثرة ما سمعوا به من الناس من العدل وغير العدل ، والمرأة والعبد والخادم قد تواطأ ذلك عندهم وكثر سماعهم ، فهذا وما أشبهه مما تجوز فيه شهادة السماع .

وكان الشافعي يقول : ولا يسع شاهدا أن يشهد إلا بما علم ، والعلم من ثلاثة وجوه ، منها : ما عاينه الشاهد فشهد بالمعاينة ، ومنها : ما [سمعه] فيشهد بما أثبت سمعا من المشهود عليه ، ومنها : ما تظاهرت به الأخبار ، فمن ذلك الشهادة على ملك الرجل الدار ، والثوب على تظاهر الأخبار ، لأنه مالك للدار وعلى أن لا يرى له منازعا في الدار . وعلى النسب إذا سمعه ينتسب زمانا أو سمع غيره ينسبه إلى نسبه ، ولم يسمع دافعا له ، ولم تر دلالة ترتاب بها .

وأما أصحاب الرأي فمذهبهم : أن الشهادة على النسب جائزة إذا كان معروفا مشهورا ، أو يشهد بذلك عنده عدلان ، وكان النعمان ويعقوب يقولان : إذا شهد شاهد أن فلانا أعتق فلانا ، وأنه مولاه ، وعصبته لا وارث له غيره ، فإن كانا أدركا الذي أعتق ، وسمعا العتق منه فشهادتهما جائزة ، وإن كانا لم يسمعا العتق منه ، فلا تجوز شهادتهما [ ص: 375 ] ثم [رجع] يعقوب فقال : إذا شهدوا على ولاء مشهور فهو كشهادتهم بالنسب ، وإن لم يدركوا ذلك ، ولم يسمعوه .

قال أبو بكر : أما الشهادة على النسب المشهور فإني لا أعلم أحدا من أهل العلم يمنع منه ، بل كل من نحفظ عنه منهم يقول به ، وأما غير النسب مما يختلف فيه ، فالوقوف عن الحكم بالشهادة بالسماع فيه يجب ، لأني لا أعلم حجة توجب شيئا منه .

واختلفوا في الشهادة على القتل : فكان كل من نحفظ قوله من أهل المدينة وأهل الكوفة ، والشافعي ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي يقولون : تقبل على القتل ، عمدا كان القتل أو خطأ شاهدين عدلين ويحكم بشهادتهما ، غير الحسن البصري فإنه كان يقول : الشهادة على القتل كالشهادة على الزنا لا تجوز إلا شهادة أربع .

قال أبو بكر : كان - يعني الحسن - أن المحصن إذا شهد عليه أربعة بالزنا يجب قتله بالرجم ، وكذلك قاتل العمد لولي المقتول أن يقتله ، وكأنه شبه أحدهما بالآخر ، وهذا غير جائز; لأن المخصوص لا يجوز القياس عليه ، وقد خص الله - جل وعز - الشهادة على الزنا فجعلها لا تقبل أقل من أربعة شهداء .

واختلفوا في أربعة شهدوا على رجل بالزنا والإحصان ، ثم غابوا أو ماتوا قبل أن يزكوا ، ثم زكوا . [ ص: 376 ]

ففي قول مالك ، والشافعي ، وأبي ثور : يقام عليه الحد بشهادتهم ، وقال النعمان : إذا غابوا أو ماتوا فلم يقم الحد حتى يحضروا من قبل أنهم قد يرجعون .

قال أبو بكر : كما قال مالك والشافعي أقول ، وقد ذكرت هذه المسألة في كتاب الحدود .

قال أبو بكر : وقد روينا عن خالد بن يزيد الهمداني أنه قال : شهد أبي ومكحول على امرأة من وراء الحجاب فسمعا من قولها فقال : إي والله حتى تحسرين عن وجهك ففعلت (ونظرا) إليها ، وقاما .

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : لا تشهد إلا على من تعرف . وقال أحمد بن حنبل : لا تشهد على رجل لا تعرفه ، ولا تشهد إلا لمن تعرف . وقال الزهري في الشهادة على المرأة من وراء الستر قال : إن عرفتها فاشهد ، وإن لم تعرفها فلا تشهد .

قال أبو بكر : الشهادة على من لا تعرف اسمه ونسبه تفترق على وجهين أحدهما : شهادة على فعل ، والآخر : على إقرار ، فما كان من شهادة على فعل شهده وعاينه فعليه أن يشهد به ، وإذا عرفه الفاعل [ ص: 377 ] باسمه ونسبه ، أو عرف شخصه إذا أثبت الشخص عند أداء الشهادة ، وهذه شهادة يوقن مؤديها أنه قائم بحق فيها ، وكذلك الشهادة على الإقرار يقر الرجل بمال أو طلاق أو نكاح أو بعتق يجب عليه القيام بذلك ، وهذا يجب أيضا أن يحكم به .

والوجه الثاني : أن يشهد على إقرار رجل أو امرأة لا يعرفهما ، فمات المشهود عليه أو غاب ، فهذا لا يجوز أن يشهد على من لا يعرفه باسمه ونسبه ، وقد غاب عنه شخصه ، فليس يمكنه أن يشير إليه ، والفرق بين هذا الباب وبين الباب الأول ، أن الأول يشير إلى شخص بعينه بأنه فعل كذا أو قال كذا ، ولما غاب المشهود عليه في الباب الثاني وقع العجز بموته أو غيبته أن يشير إلى شخص بعينه والله أعلم . [ ص: 378 ]

[ ص: 379 ] [ ص: 380 ] [ ص: 381 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية