صفحة جزء
ذكر الاختلاف في الانتفاع بالسمن المائع الذي سقطت فيه الفأرة

اختلف أهل العلم في السمن المائع الذي سقطت فيه الفأرة، فقالت طائفة: ينتفع به.

868 - حدثنا موسى بن هارون، أبنا يحيى الحماني، ثنا شريك، عن عطاء، عن ميسرة وزاذان، عن علي، قال: "إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامدا رمى بها وما حولها وأكل، وإن كان ذائبا استصبح به" .

869 - وحدثنا موسى بن هارون، ثنا يحيى، ثنا قيس، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عبد الله مثله .

870 - حدثنا موسى، ثنا يحيى، ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.

871 - حدثنا علي بن الحسن، ثنا عبد الله بن الوليد، عن سفيان، ثنا حمران بن أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي، قال: " سئل ابن مسعود عن فأرة وقعت في سمن، فقال ابن مسعود: "إنما حرم الله من الميتة لحمها ودمها" .

872 - حدثنا علي بن الحسن، ثنا عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن [ ص: 421 ] أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري، أنه قال " في الفأرة تقع في السمن أو الزيت، قال: انتفعوا به ولا تأكلوه " .

873 - حدثنا علي بن الحسن، ثنا عبد الله، عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين، عن أبي موسى الأشعري، قال: "وقعت فأرة في سمن، فقال أبو موسى: بيعوه وبينوا، ولا تبيعوه من مسلم " .

874 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر والثوري، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: " أن فأرة وقعت في زيت عشرين فرقا، فقال ابن عمر: استسرجوا به وادهنوا به الأدم ".

وقال عطاء: أرى أن يستثقب به ولا يؤكل، وقال في الدهن: ينش فيدهن به إذا لم يقدره، وقال في شحوم الميتة تدهن به السفن.

وقال الليث بن سعد: لا يؤكل ولكن يستصبح به، وليتوق الذي يستصبح أن يمس به ثوبا أو طعاما .

وقال الليث بن سعد في الدجاجة تقع في قدر اللحم، وهي تطبخ: لا أرى أن يؤكل ذلك القدر إلا أن يغسل ذلك مرارا، ويغلى على النار حتى يذهب كل ما كان فيها [ ص: 422 ] وكذلك والزيتون يفعل به مثل ذلك إذا وقعت فيه الفأرة .

وقال مالك: لا يؤكل من هذا شيء؛ لأن الميتة قد خلط بها ما كان في القدر. وقال الحسن البصري في الطير يقع في القدر: يصب المرق ويؤكل اللحم .

وقال الشافعي في الزيت تموت فيه الفأرة: يستصبح به. وقال سفيان الثوري: أهريقه أو أسرج به .

وقال أحمد بن حنبل: إنما يستصبح به بحديث ابن عمر.

واختلفوا في بيع السمن الذي سقطت فيه فأرة، فروينا عن أبي موسى الأشعري أنه قال: بيعوه وبينوا، ولا تبيعوا من مسلم. وسئل الليث بن سعد عن زيت ماتت فيه فأرة يباع من نصراني. قال: إذا بين ذلك له لم نر به بأسا، ولو باعه من مسلم بعد أن يبين لئلا يجعله في شيء إلا في مصباحه، كان أحب إلي من أن يبيعه من نصراني لئلا يغر به مسلما .

وقال الليث بن سعد في بيع جلود الميتة: لا بأس أن يباع من الدباغين إذا بينت أنها ميتة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الانتفاع بها .

وقال إسحاق بن راهويه: إن باعه من أهل الكتاب يبين، ولا يبيعه من مسلم، ولو كان هذا من تحريم الله ما حل بيعه أصلا. [ ص: 423 ]

ومنعت طائفة من بيعه، وممن منع من بيع السمن الذي وقعت فيه فأرة: مالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل. وكرهت طائفة بيعه والانتفاع به.

875 - حدثنا يحيى بن محمد، ثنا أبو عمر، ثنا حماد، ثنا عطاء بن السائب، عن ميسرة، عن علي، قال: "إذا ماتت الفأرة في سمن جامد فخذوها وما حولها فألقوه، وكلوا ما بقي، وإن ماتت في ذائب فلا تأكلوه، وإن ماتت في خل فلا تأكلوه، وإن ماتت في بئر فانتزعوا ماءها" .

876 - حدثنا يحيى بن محمد، ثنا أبو عمر الحوضي، ثنا حماد بن سلمة، عن أبي المهزم، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "إذا ماتت الفأرة في السمن فلا تأكلوه فإنها فاسقة".

وقال النخعي: إن كان ذائبا يغلي فلا تأكلوه، وإن كان باردا فخذوها حين تقع من تحتها غرفة وكلوا ما بقي.

وقال ابن جريج: قلت لعمرو بن دينار إذا ماتت الفأرة في الدهن وهو يابس أيدهن به، قال: لا أحبه. وروينا عن عكرمة أنه سئل عن سام [ ص: 424 ] أبرص، وهو الوزغ وقع في إناء فيه دهن فمات فيه، فأمرهم أن يهريقوه .

وكره مالك أن يتخذ من الزيت الذي سقطت فيه الفأرة صابونا، أو يباع ليغسل بالصابون، وقال: إني لأكره ذلك وما يعجبني.

واختلفوا في الشاة تموت وفي ضرعها لبن، فرخصت طائفة في شرب ذلك اللبن، هذا قول النعمان، قال: لا بأس بالأنفحة واللبن وإن كان في ضرع شاة ميتة. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: اللبن لا يموت.

877 - من حديث يحيى بن يمان، عن محمد بن عجلان، عن أبي إسحاق، عن قرظة، قال: قال عمر: "اللبن لا يموت"، وقال سفيان الثوري في اللبن في ضرع شاة ميتة قال: أما اللبن فلا بأس به، ولكني أكرهه أنه في ظرف ميتة، وعرض قول الثوري : لا يعجبني؛ لأنه في ظرف ميتة. على أحمد فقال: صدق، قال إسحاق كما قال.

وقال الأوزاعي في تفسير قوله: "اللبن لا يموت"، إنما ذلك إذا ماتت المرأة وفي ثدييها لبن، فسقي من ذلك اللبن صبي، فيحرم كما يحرم في الحياة، ليس كما يقولون إذا ماتت الشاة وفي ضرعها لبن . [ ص: 425 ]

وقال يعقوب: أكره الأنفحة واللبن إذا كانا في ضرع شاة ميتة من قبل الوعاء الذي هو فيه إلا أن تكون الأنفحة جامدة فتكون كالبيضة من الميتة، لا بأس بها .

واختلفوا في البيضة تخرج من الدجاجة وهي ميتة، فروي عن ابن عمر أنه كرهها، قيل له: إنها فرخت دجاجة، فقال للقائل: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق. فقال: لعن الله أهل العراق.

878 - من حديث إسحاق بن راهويه، عن جرير، عن عطاء بن السائب، عن كثير بن جمهان السلمي قال: " سأل رجل ابن عمر...

وروي أن ابن الكواء قام إلى علي بن أبي طالب وهو على المنبر، فقال: إني وطئت دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة آكلها؟ فقال علي: لا، قال: فإني استحضنتها تحت دجاجة فخرج منها فروج آكله؟ قال: نعم. قال: كيف؟ قال: لأنه حي خرج من ميت " .

879 - من حديث يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، قال أخبرني يحيى بن أيوب، عن أبي صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن أبي الصهباء البكري، قال: قام ابن الكواء...

قال أبو بكر: وقد ذكرت فيما مضى عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، والليث نحوا من هذا القول، وقال مالك: لا أرى أكلها، وقال [ ص: 426 ] أصحاب الرأي: لا بأس بها.

قال أبو بكر: لا فرق بين البيضة التي قد اشتدت وصلبت تقع في البول والدم، وبين كونها في بطن الدجاجة الميتة أنها، إذا غسلت تؤكل؛ لأن النجاسة غير واصلة إليها في واحد من الحالين لصلابتها، والحائل بينها وبين النجاسة من القشر الصحيح الذي يحيط العلم أن لا سبيل لوصول شيء إلى داخلها، فإذا كانت غير صلبة لينة فهي نجسة لا يجوز أكلها .

قال أبو بكر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في فأرة وقعت في سمن: إن كان مائعا فلا تقربوه. فغير جائز على ظاهر خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع ذلك وشراؤه والانتفاع به، بأي وجه كانت المنفعة، باستصباح به، أو استعمال في الدباغ، ولا يجوز بيعه من غير المسلمين؛ لأنه حرام قد نجس بوقوع الميتة فيه، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطرح موضع الفأرة من السمن الجامد منه، وكان حكم المائع منه في النجاسة حكم ما حول السمن الذي وقعت فيه الفأرة من الجامد منه، دل ذلك على تحريم استعماله، وذلك أنه لا يأمر بطرح ما إلى استعماله والانتفاع به سبيل، وكيف يجوز ذلك، وقد أخبرنا أن الله تعالى ذكره كره لنا إضاعة المال، ولو كان الانتفاع به جائزا ما أمرنا بطرحه، وفي قوله: "فلا تقربوه" بيان ذلك في حديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرته فيما مضى، لما قيل له: أرأيت يا رسول الله شحوم الميتة، فإنه يدهن بها [ ص: 427 ] السفن، ويدهن بها الجلود، ويستنفع بها الناس، فقال: "لا" . أبين البيان على أن السمن المائع إذا سقطت فيه الفأرة غير جائز الانتفاع به بوجه من الوجوه؛ لأن الذي منع منه النبي صلى الله عليه وسلم في معناه نجس حرام مثله.

880 - حدثنا يحيى، ثنا الحجبي، ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن، وراد - كاتب المغيرة - قال: كتب معاوية إلى المغيرة: أن اكتب إلي ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه: "أنه كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"، ومما يحتج به في المنع من ثمن ما هو حرام، أخبار ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حديث ابن عباس .

881 - حدثنا محمد بن إسماعيل، ثنا سعيد بن سليمان، نا هشيم، ثنا خالد الحذاء، عن ابن عريان المجاشعي قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، وأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه".

قال أبو بكر: فقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء كلها، وأعلم أن الله عز وجل إذا حرم شيئا حرم ثمنه، وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل السمن الذي سقطت فيه الفأرة، وما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتحريم الله عز، وجل، وليس يجوز أن يخص من ذلك شيء إلا بحجة . [ ص: 428 ]

فإن قال قائل: فقد وجدنا أشياء يجوز بيعها ويحل أثمانها ولا يحل أكلها وذلك كالرقيق، ولحوم الحمر الأهلية. قيل: ذلك مستثنى من جملة ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لإجماع الأمة على ذلك، ولا نعلم أهل العلم اختلفوا في إباحة بيع الحمر، لما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكل الحمر الأهلية فهو حرام، وكذلك لما أجمعوا على تحريم لحوم بني آدم وجب تحريمه، ولما أباحوا بيع الرقيق والحمر الأهلية كان ذلك جائزا، ولو اختلف الناس في شيء من ذلك لكان حكمه في التحريم حكم ما أجمل النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "إن الله عز، وجل إذا حرم شيئا يحرم ثمنه" .

882 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، ثنا ابن الأصبهاني، أبنا يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، ثنا عطاء، عن جابر، قال: " لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتاه أصحاب الصليب الذين يجمعون الأوداك من الميتة وغيرها، وإنما هي للسفن وللأداة، فقال: " قاتل الله اليهود حرمت عليهم شحومها فباعوها وأكلوا ثمنها، قال: فنهاهم عن ذلك " .

883 - حدثنا محمد بن إسماعيل، ثنا أبو حذيفة، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" . [ ص: 429 ]

قال أبو بكر: فإن احتج محتج بخبر عبد الجبار بن عمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه رجل فسأله عن فأرة وقعت في سمن لهم؟ فقال: "أجامد؟" قال: نعم. قال: "اطرحوها واطرحوا ما حولها وكلوا ودكه" قالوا: يا رسول الله إنه مائع؟ قال: "انتفعوا به ولا تأكلوه" .

884 - حدثنا علان بن المغيرة، ثنا ابن أبي مريم، عن ابن وهب، عن عبد الجبار. وليس يجوز أن يقابل بهذا الخبر خبر الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس ، عن ميمونة . وعن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة ؛ لأن عبد الجبار هذا ضعيف، واهي الحديث، قال يحيى بن معين: عبد الجبار بن عمر ضعيف يروي عنه ابن وهب. قال محمد بن إسماعيل: عبد الجبار الأيلي سمع الزهري عنده مناكير.

وقد روى بعض أهل مصر عن يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن [ ص: 430 ] الزهري، عن سالم، عن ابن عمر نحو هذا الحديث، قال أحمد بن حنبل: في حديثه - يعني يحيى بن أيوب - الوهم، كان يحدث من حفظه، فذكر له من حديثه، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر. فقال: ها ! من يحتمل هذا.

فإن احتج محتج بالأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، قيل له: ليس في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، ولو علم من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، لرجع إليه، ولا يجوز أن يظن بهم غير ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية