صفحة جزء
باب أقسام تأويل الرؤيا.

3283 - حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم المعروف بابن أبي نصر، أنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي، نا إسحاق بن إبراهيم بن عباد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ح وأخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، نا أحمد بن منصور الرمادي، نا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: كان أبو هريرة، يحدث " أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الليلة ظلة ينطف منها السمن والعسل، وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض، فأراك، يا رسول الله، أخذت به، فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر، فعلا، ثم أخذ به رجل آخر، فعلا، ثم أخذ به رجل آخر، فانقطع به، ثم وصل له، فعلا.

فقال أبو بكر: أي رسول الله، بأبي أنت، والله لتدعني فلأعبرها.

فقال: اعبرها.

فقال: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته، [ ص: 217 ] وأما المستكثر والمستقل، فهو المستكثر من القرآن، والمستقل منه، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فهو الحق الذي أنت عليه، تأخذ به، فيعليك الله، ثم يأخذ به بعدك رجل آخر، فيعلو به، ثم يأخذ به آخر بعده، فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر بعده، فيقطع به، ثم يوصل له، فيعلو.

أي رسول الله، لتحدثني أصبت أم أخطأت؟ قال: أصبت بعضا وأخطأت بعضا.

قال: أقسمت بأبي أنت يا رسول الله، لتحدثني ما الذي أخطأت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم ".


هذا حديث متفق على صحته، أخرجه محمد، عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل".

وكذلك أخرجه مسلم، عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن الزهري، وأخرجه مسلم، عن محمد بن نافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، أو أبي هريرة، وقال: قال عبد الرزاق، وكان معمر يقول أحيانا: عن ابن عباس، [ ص: 218 ] وأحيانا: عن أبي هريرة، ورواه أبو داود، عن محمد بن يحيى بن فارس، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: قال أبو هريرة: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني أرى الليلة".

قوله: "إني رأيت الليلة"، يقال ما بين الصبح إلى الظهر: رأيت الليلة، وبعد الظهر إلى الليل: رأيت البارحة.

والظلة: كل ما أظلك من فوقك، وأراد بالظلة ههنا، والله أعلم: سحابة ينطف منها، أي: يقطر منها السمن والعسل، والنطف: القطر، ويقال للماء الكثير: نطفة، وللقليل: نطفة.

وقوله: يتكففون، أي: يتلقونه بأكفهم ويأخذونه، يقال: تكفف الرجل الشيء، واستكفه: إذا مد كفه فتناول بها، والسبب: الحبل، والواصل بمعنى الوصول، سمي الحبل سببا، لأنه يوصله إلى الماء.

وقوله سبحانه وتعالى: ( وآتيناه من كل شيء سببا ) ، أي: علما يوصله إلى حيث يريد.

وقوله: "تقطعت بهم الأسباب" أي: الوصلات والمودات، ومنه الحديث: "كل سبب ينقطع إلا سببي".

وفي قوله لأبي بكر: "لا تقسم" ولم يخبره عن مسألته، دليل على أن قول القائل أقسمت لا يكون يمينا حتى يقول: أقسمت بالله، وهو قول مالك والشافعي، لأنه بمجرده لو كان يمينا، لأشبه أن يبره [ ص: 219 ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإخبار عن مسألته، لأنه عليه السلام أمر بإبرار المقسم.

وذهب قوم إلى أن مجرد قوله: "أقسمت" يمين وإن لم يصله باسم الله عز وجل، وإليه ذهب أصحاب الرأي، لأنه لو لم يكن يمينا، لكان لا يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقسم".

والأمر بإبرار المقسم خاص فيما يجوز ويتيسر.

واختلف الناس في معنى قوله: "أصبت بعضا، وأخطأت بعضا"، فقال بعضهم: أراد به الإصابة في عبارة بعض الرؤيا، والخطأ في بعضها.

وقال آخرون: أراد بالإصابة: ما تأوله في عبارة الرؤيا، فقد خرج الأمر على وفاق قوله، وأراد بالخطأ: مسألته الإذن له في تعبير الرؤيا، ومبادرته إلى الجواب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتركه إليه عليه السلام حتى يكون هو الذي يعبرها، والله أعلم.

قال الإمام: تأويل جملة هذه الرؤيا على ما عبره أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهذه الرؤيا تشتمل على أشياء، إذا انفرد كل واحد منها عن صاحبه، انصرف تأويله إلى وجه آخر، فإن تعبير الرؤيا يتغير بالزيادة والنقصان. [ ص: 220 ] .

فالسحاب في التأويل حكمة، فمن ركب السحاب ولم يهله، علا في الحكمة، فإن أصاب منها شيئا، أصاب حكمة، وإن خالط ولم يصب شيئا، خالط الحكماء، فإن كان في السحاب سواد، أو ظلمة، أو رياح، أو شيء من هيئة العذاب، فهو حينئذ عذاب، وإن كان فيه غيث، فهو رحمة.

والسمن والعسل قد يكون مالا في التأويل، وروي أن رجلا سأل ابن سيرين، فقال: رأيت كأني ألعق عسلا من جام من جوهر.

فقال: اتق الله، وعاود القرآن، فإنك قرأت القرآن، ثم نسيته.

والعلو إلى السماء رفعة، لقوله سبحانه وتعالى: ( ورفعناه مكانا عليا ) ، ومن رأى أنه قد صعد السماء فدخلها، نال شرفا وذكرا، ونال الشهادة.

والطيران في الهواء عرضا: سفر ونيل شرف، فإن طار مصعدا، أصابه ضر عاجل، فإن بلغ السماء كذلك يبلغ غاية الضر، فإن تغيب في السماء ولم يرجع، مات، فإن رجع نجا بعدما أشرف على الموت.

والحبل: العهد والأمان، لقوله سبحانه وتعالى: ( واعتصموا بحبل الله ) ، وقال: ( إلا بحبل من الله وحبل من الناس ) ، أي: أمان.

واعلم أن تأويل الرؤيا ينقسم أقساما، فقد يكون بدلالة من جهة الكتاب، أو من جهة السنة، أو من الأمثال السائرة بين الناس، وقد يقع التأويل على الأسماء والمعاني، وقد يقع على الضد والقلب.

فالتأويل بدلالة القرآن، كالحبل يعبر بالعهد، لقوله سبحانه وتعالى: ( واعتصموا بحبل الله ) .

والسفينة تعبر بالنجاة، لقوله سبحانه وتعالى: ( فأنجيناه وأصحاب السفينة ) .

والخشب يعبر [ ص: 221 ] بالنفاق، لقوله عز وجل: ( كأنهم خشب مسندة ) .

والحجارة تعبر بالقسوة، لقوله جل ذكره: ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) .

والمريض بالنفاق، لقوله تبارك وتعالى: ( في قلوبهم مرض ) .

والبيض يعبر بالنساء، لقوله سبحانه وتعالى: ( كأنهن بيض مكنون ) ، وكذلك اللباس، لقوله سبحانه وتعالى: ( هن لباس لكم ) .

واستفتاح الباب يعبر بالدعاء، لقوله سبحانه وتعالى: ( إن تستفتحوا ) ، أي: تدعوا.

والماء يعبر بالفتنة في بعض الأحوال، لقوله عز وجل: ( لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ) .

وأكل اللحم النيء يعبر بالغيبة، لقوله سبحانه وتعالى: ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) .

ودخول الملك محلة، أو بلدة، أو دارا تصغر عن قدره، وينكر دخول مثله مثلها، يعبر بالمصيبة والذل ينال أهلها، لقوله تبارك وتعالى: ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ) .

وأما التأويل بدلالة الحديث كالغراب، يعبر بالرجل الفاسق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقا.

والفأرة يعبر بالمرأة الفاسقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها فويسقة.

والضلع يعبر بالمرأة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن المرأة خلقت من ضلع أعوج".

والقوارير تعبر بالنساء، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة، [ ص: 222 ] رويدك سوقا بالقوارير".

والتأويل بالأمثال، كالصائغ يعبر بالكذاب، لقولهم: أكذب الناس الصواغون.

وحفر الحفرة يعبر بالمكر، لقولهم: من حفر حفرة وقع فيها، قال الله تعالى: ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) .

والحاطب يعبر بالنمام، لقولهم لمن وشى: إنه يحطب عليه، وفسروا قوله سبحانه وتعالى: ( حمالة الحطب ) بالنميمة.

ويعبر طول اليد بصنائع المعروف، لقولهم: فلان أطول يدا من فلان.

ويعبر الرمي بالحجارة وبالسهم بالقذف، لقولهم: رمى فلانا بفاحشة، قال الله عز وجل: ( والذين يرمون المحصنات ) .

ويعبر غسل اليد باليأس عما يأمل، لقولهم: غسلت يدي عنك.

والتأويل بالأسامي، كمن رأى رجلا يسمى راشدا يعبر بالرشد، وإن كان يسمى سالما يعبر بالسلامة.

التالي السابق


الخدمات العلمية