صفحة جزء
باب إن من البيان لسحرا

8893 - أخبرنا أبو الحسن الشيرزي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر، أنه قال: قدم رجلان من المشرق، فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول [ ص: 363 ] الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا، أو إن بعض البيان لسحر".

هذا حديث صحيح، أخرجه محمد، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.

وروي عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان سحرا، وإن من الشعر حكما".

قال الإمام: اختلف الناس في تأويل قوله: "إن من البيان سحرا"، فمنهم من حمله على الذم، وذلك أنه ذم التصنع في الكلام، والتكلف لتحسينه، ليروق السامعين قوله، ويشتمل به قلوبهم، وأصل السحر في كلامهم الصرف، وسمي السحر سحرا، لأنه مصروف عن جهته، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ( فأنى تسحرون ) ، أي: تصرفون عن الحق، وقوله عز وجل: ( إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) أي: مصروفا عن الحق، فهذا المتكلم ببيانه يصرف قلوب السامعين إلى قبول قوله، وإن كان غير حق.

وروي عن مجاهد، قال: قام شاب، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة، فأذن له، فطول الخطبة، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هيه قط الآن"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "إن الله لم يبعث نبيا إلا مبلغا، وإن تشقيق الكلام من الشيطان، وإن من البيان سحرا".

وروي أن رجلا خطب فأكثر، [ ص: 364 ] فقال عمر: إن كثيرا من الخطب من شقاشق الشيطان.

شبه الذي يتفيهق في كلامه، ولا يبالي بما قال من صدق أو كذب بالشيطان.

قال الليث: الشقشقة لهاة الجمل العربي، ولا يكون ذلك إلا للعربي.

وروي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم صرف الكلام، ليسبي به قلوب الرجال أو الناس، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا".

والمراد من صرف الكلام: فضله وما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه من وراء الحاجة، وقد يدخله الرياء، ويخالطه الكذب، وأيضا فإنه قد يحيل الشيء عن ظاهره ببيانه، ويزيله عن موضعه بلسانه، إرادة التلبيس عليهم، فيصير بمنزلة السحر الذي هو تخييل لما لا حقيقة له.

وقيل: أراد إن من البيان ما يكسب به صاحبه من الإثم ما يكتسب الساحر بسحره.

وقيل: معناه: الرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بحجته من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق، وشاهده قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء [ ص: 365 ] من حق أخيه، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار".

وذهب آخرون إلى أن المراد منه مدح البيان، والحث على تحسين الكلام، وتحبير الألفاظ، لأن أحد القرينين، وهو قوله: "إن من الشعر حكما"، على طريق المدح، فكذلك القرين الآخر، روي عن عمر بن عبد العزيز، أن رجلا طلب إليه حاجة كان يتعذر عليه إسعافه بها، فاستمال قلبه بالكلام، فأنجزها له، ثم قال: هذا هو السحر الحلال.

وروي عن بريدة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن من البيان سحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيالا"، فقال صعصعة بن صوحان: صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم.

أما قوله: " إن من البيان سحرا " فالرجل يكون عليه الحق، فهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق.

وقوله: "إن من العلم جهلا" فيتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم، فيجهله ذلك.

وأما قوله: "من الشعر حكما"، فهي هذه الأمثال والمواعظ التي يتعظ الناس بها.

وأما قوله: " من القول عيالا "، فعرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه ولا يريده. [ ص: 366 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية