القسمة الثانية :
أن
الخبر ينقسم إلى ما يعلم صدقه ، وإلى ما يعلم كذبه ، وإلى ما لا يعلم صدقه ولا كذبه .
فأما
ما يعلم صدقه فمنه ما يعلم صدقه بمجرد الخبر ، كخبر التواتر ، وما يعلم صدقه لا بنفس الخبر ، بل بدليل يدل على كونه صادقا ، كخبر الله وخبر الرسول فيما يخبر به عن الله تعالى وخبر أهل الإجماع وخبر من أخبر الله تعالى عنه أو رسوله أو أهل الإجماع أنه صادق ، وخبر من وافق خبره خبر الصادق أو دليل العقل وأما ما وراء ذلك مما ادعي أنه معلوم الصدق ، ففيه اختلاف وتفصيل يأتي ذكره في أخبار الآحاد .
وأما
ما يعلم كذبه ، فما كان مخالفا لضرورة العقل أو النظر ، أو الحس أو أخبار التواتر ، أو النص القاطع ، أو الإجماع القاطع ، أو ما صرح الجمع الذين لا يتصور تواطؤهم على الكذب بتكذيبه ، ومن ذلك قول من لم يكذب قط فيما أخبر به " أنا كاذب " فخبره ذلك كاذب ؛ لأن المخبر عنه ليس هو نفس هذا الخبر ؛ لأن الخبر يجب أن يكون غير المخبر عنه ، ولا ما لم يوجد من أخباره ، فإنها لا توصف بصدق ولا كذب فلم يبق غير الأخبار السالفة . وقد كان صادقا فيها فخبره عنها بأنه كاذب فيها يكون
[ ص: 13 ] كذبا . وقد اختلف في أخبار قيل إنها معلومة الكذب ، وسيأتي الكلام فيها بعد هذا في أخبار الآحاد .
وأما
ما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، فمنه ما يظن صدقه ككثير من الأخبار الواردة في أحكام الشرائع والعادات ممن هو مشهور بالعدالة والصدق . ومنه ما يظن كذبه كخبر من اشتهر بالكذب ، ومنه ما هو غير مظنون الصدق ولا الكذب ، بل مشكوك فيه ، كخبر من لم يعلم حاله ولم يشتهر أمره بصدق ولا كذب .
فإن قيل : كل خبر لم يقم الدليل على صدقه قطعا فهو كاذب ؛ لأنه لو كان صادقا لما أخلانا الله تعالى عن نصب دليل يدل عليه ، ولهذا فإن المتحدي بالنبوة ، إذا لم تظهر على يده معجزة تدل على صدقه ، فإنا نقطع بكذبه ، قلنا : جوابه من ثلاثة أوجه : الأول : لا نسلم امتناع الخلو من نصب دليل يدل على صدقه بتقدير أن يكون صادقا في نفس الأمر . ومن أوجب ذلك فإنما بناه على وجوب رعاية الصلاح أو الأصلح وقد أبطلناه في علم الكلام .
الثاني : أنه مقابل بمثله ، وهو أن يقال : ولو كان كاذبا لما أخلانا الله تعالى عن نصب دليل يدل على كذبه .
الثالث : أنه يلزم مما ذكروه أن يقطع بكذب كل شاهد لم يقم الدليل القاطع على صدقه ، وكفر كل مسلم وفسقه ، إذا لم يقم دليل قاطع على إيمانه وعدالته ، وهو محال .
وأما المتحدي بالرسالة إذا لم تظهر المعجزة الدالة على صدقه إنما قطعنا بكذبه بالنظر إلى العادة لا بالنظر إلى العقل ، وذلك لأن الرسالة عن الله تعالى على خلاف العادة ، والعادة تقضي بكذب من يدعي ما يخالف العادة من غير دليل ولا كذلك الصدق في الأخبار عن الأمور المحسوسة ؛ لأنه غير مخالف للعادة .