[ ص: 15 ] المسألة الأولى
اتفق الكل على أن
خبر التواتر مفيد للعلم بمخبره خلافا للسمنية
>[1] والبراهمة
>[2] في قولهم : لا علم في غير الضروريات إلا بالحواس دون الأخبار وغيرها ، ودليل ذلك ما يجده كل عاقل من نفسه من العلم الضروري بالبلاد النائية ، والأمم السالفة ، والقرون الخالية ، والملوك ، والأنبياء ، والأئمة ، والفضلاء المشهورين والوقائع الجارية بين السلف الماضين ، بما يرد علينا من الأخبار حسب وجداننا كالعلم بالمحسوسات عند إدراكنا لها بالحواس . ومن أنكر ذلك فقد سقطت مكالمته ، وظهر جنونه أو مجاحدته .
فإن قيل ما ذكرتموه فرع تصور اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير على الإخبار بخبر واحد ، وذلك غير مسلم ، مع اختلافهم في الأمزجة والآراء والأغراض وقصد الصدق والكذب ، كما لا يتصور اتفاق أهل بلد من البلاد على حب طعام واحد معين ، وحب الخير أو الشر .
وإن سلمنا تصور اتفاق الخلق الكثير على الإخبار بشيء واحد ، إلا أن كل واحد منهم يجوز أن يكون كاذبا في خبره ، بتقدير انفراده كما يجوز عليه الصدق .
فلو امتنع ذلك عليه حالة الاجتماع لانقلب الجائز ممتنعا ، وهو محال وإذا جاز ذلك على كل واحد واحد ، والجملة لا تخرج عن الآحاد ، كان خبر الجملة جائز الكذب ، وما يجوز أن يكون كاذبا ، لا يكون العلم بما يخبر به واقعا .
وإن سلمنا أنه لا يلزم أن ما ثبت للآحاد يكون ثابتا للجملة ، غير أن القول بحصول العلم بخبر التواتر يلزم منه أمر ممتنع فيمتنع ، وبيانه من ستة أوجه :
الأول : أنه لو جاز أن تخبر جماعة بما يفيد العلم ، لجاز على مثلهم الخبر بنقيض خبرهم ، كما لو أخبر الأولون بأن زيدا كان في وقت كذا ميتا ، ونقل الآخرون حياته في ذلك الوقت بعينه ، فإن حصل العلم بالخبرين ، لزم اجتماع العلم الضروري بموته وحياته في وقت واحد معين وهو محال ، وإن حصل العلم بأحد الخبرين دون الآخر ، فلا أولوية مع فرض تساوي المخبرين في الكمية والكيفية .
[ ص: 16 ] الثاني أنه لو حصل العلم بخبر الجماعة الكثيرة لحصل العلم بما ينقله
اليهود عن
موسى ،
والنصارى عن
عيسى ، من الأمور المكذبة لرسالة نبينا ، التي دلت المعجزة القاطعة على صدقه فيها ووجوب علمنا بها ، واجتماع علمين متناقضين محال .
الثالث : أنه لو حصل العلم الضروري بخبر التواتر ، لما خالف في نبوة نبينا أحد ، لأن ما علم بالضرورة لا يخالف ؛ وحيث وقع الخلاف في ذلك من الخلق الكثير علمنا أن خبر التواتر لا يفيد العلم
>[3]
الرابع : أنه لو كان العلم الضروري حاصلا بخبر التواتر ، لما وقع التفاوت بين علمنا بما أخبر به أهل التواتر من وجود بعض الملوك ، وعلمنا بأنه لا واسطة بين النفي والإثبات واستحالة اجتماع الضدين ، وأن الجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين ؛ لأن الضروريات لا تختلف ، ولا يخفى وجه الاختلاف في سكون النفس إليهما .
الخامس : هو أن ما يحصل من الاعتقاد الجازم بما يخبر به أهل التواتر لا يزيد على الاعتقاد الجازم بأن ما شاهدناه بالأمس من وجود الأفلاك الدائرة ، والكواكب السيارة ، والجبال الشامخة ، أنه الذي نشاهده اليوم مع جواز أن يكون الله تعالى قد أعدم ذلك ، وما نشاهده الآن قد خلقه الله تعالى على مثاله فإذا لم يكن هذا يقينيا فما لا يزيد عليه في الجزم والاعتقاد أيضا لا يكون يقينيا .
السادس : أنه لو كان العلم الضروري حاصلا من خبر التواتر لما خالفناكم فيه لأن الضروري لا يخالف : والجواب من جهة الإجمال والتفصيل .
أما الإجمال : فهو أن ما ذكروه تشكيك على ما علم بالضرورة ، فلا يكون مقبولا ، وأما التفصيل : فأما السؤال الأول ، فجوابه بما سبق في بيان تصور الإجماع فيما تقدم .
وأما السؤال الثاني : فلأنه لا يلزم أن ما كان لآحاد الجملة وجائزا عليها أن يكون ثابتا للجملة وجائزا عليها . ولهذا فإنه ما من واحد من معلومات الله إلا وهو متناه ، وجملة معلوماته غير متناهية .
وكذلك كل واحد من آحاد الجملة
[ ص: 17 ] فإنه جزء من الجملة ، والجملة ليست جزءا من الجملة .
وكذلك كل لبنة أو خشبة داخلة في مسمى الدار وهي جزء منها ، وليست دارا ، والمجتمع من الكل دار ، وكذلك العشرة مركبة من خمسة وخمسة ، وكل واحدة من الخمستين ليست عشرة ، والمجموع منهما عشرة ونحوه .
وأما ما ذكروه في السؤال الثالث من الإلزام الأول ، فهو فرض محال ، فإنه مهما أخبر جمع بما يحصل منه العلم بالمخبر ، فيمتنع إخبار مثلهم في الكمية والكيفية وقرائن الأحوال بما يناقض ذلك .
وأما الإلزام الثاني ، فإنما يصح أن لو قلنا إن العلم يحصل من خبر كل جماعة ؛ وإن خبر كل جماعة تواتر وليس كذلك ؛ وإنما دعوانا أن العلم قد يحصل من خبر الجماعة ، ولا يلزم أن يكون خبر كل جماعة محصلا للعلم .
وأما الإلزام الثالث فغير صحيح ؛ لأن التواتر إنما يفيد العلم في الإخبار عن المحسوسات والمشاهدات ، والنبوة حكم ، فلذلك لم يثبت بخبر التواتر
>[4] كيف وإنا لا ندعي أن كل تواتر يجب حصول العلم بمخبره مطلقا لكل أحد لتفاوت
[ ص: 18 ] الناس في السماع وقوة الفهم والاطلاع على القرائن المقترنة بالأخبار المفيدة للعلم ، فمخالفة من يخالف غير قادحة فيما ندعيه من حصول العلم به لبعض الناس .
وأما الإلزام الرابع والخامس ، فإنما يصح أن لو ادعينا أن ما يحصل من العلم بخبر التواتر من الأمور البديهية ، وليس كذلك بل إنما ندعي العلم العادي .
وعلى هذا ، فلا يخرج عن كونه علما بتقاصره عن العلوم البديهية ، ولا بمساواته لما قيل من العلوم العادية .
وأما الإلزام السادس : فحاصله يرجع إلى المكابرة والمجاحدة ، وذلك غير متصور في العادة في خلق لا يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ .
ثم لو كان الخلاف مما يمنع من كونه علما ضروريا ؛ لكان خلاف
السوفسطائية >[5] في حصول العلم بالمحسوسات مما يخرجه عن كونه علما ضروريا ، وهو خلاف مذهب
السمنية ، وما هو اعتذارهم في خلاف
السوفسطائية في العلم بالمحسات يكون عذرا لنا في خلافهم لنا في المتواترات .