المسألة الثالثة
اتفقت
الأشاعرة والمعتزلة وجميع الفقهاء على أن
خبر التواتر لا يولد العلم خلافا لبعض الناس .
وقد اعتمد القائلون بامتناع ذلك على مسلكين ضعيفين : الأول أنهم قالوا : لو كان خبر التواتر مولدا للعلم ، فالعلم إما أن يكون متولدا من الخبر الأخير أو منه ، ومن جملة الأخبار المتقضية ، فإن كان الأول فهو محال وإلا لتولد منه بتقدير انفراده .
وإن كان الثاني فهو ممتنع لأن الأخبار متعددة والمسبب الواحد لا يصدر عن سببين ، كما لا يكون مخلوقا بين خالقين .
ولقائل أن يقول : ما المانع أن يكون متولدا عن الخبر الأخير مشروطا بتقدم ما وجد من الأخبار قبله وعدمت ، وإن كان متولدا عن الجميع فما المانع أن يكون متولدا عن الهيئة الاجتماعية ، وهي شيء واحد لا أنه متولد عن كل واحد واحد من تلك الأخبار . وهذا مما لا مدفع له .
نعم لو قيل أن تولده من جميع الأخبار ممتنع ضرورة أن ما تقضى من الأخبار معدوم ولا تولد عن المعدوم كان متجها .
المسلك الثاني ، أنهم قالوا : قد استقر من مذهب القائلين بالتولد أن كل ما هو طالب لجهة من الجهات فإنه يجوز أن يتولد عنه شيء في غير محله ، كالاعتمادات والحركات ، وما ليس كذلك لا يتولد عنه شيء في غير محله ، والقول والخبر ليس
[ ص: 24 ] له جهة فلا يتولد عنه العلم ؛ لأنه لو تولد عنه العلم لتولد في غير محله وهو ممتنع ، وذلك
>[1] مما لا اتجاه له مع ما عرف من مذاهب الخصوم ، أن إرعاب الإنسان لغيره مما يولد فيه الوجل المولد للاصفرار بعد الاحمرار ، وأن تهجينه له مما يولد فيه الخجل المولد للاحمرار بعد الاصفرار ، وإن كان ما تولد عن القول المرهب والمهجن في غير محله .
والمعتمد في إبطال ذلك ليس إلا ما حققناه في أبكار الأفكار ، من الدليل الدال على امتناع موجد غير الله تعالى ، وأن كل موجود ممكن ، فوجوده ليس إلا بالله تعالى ، فعليك باعتباره ونقله إلى هنا .
فإن قيل : اختياركم في المسألة المتقدمة إنما هو الوقف عن الجزم بكون الحاصل عن خبر التواتر ضروريا أو نظريا ، وما ذكرتموه هاهنا من كونه مخلوقا لله تعالى يوجب كونه اضطراريا للعبد ، وهو تناقض .
كيف وإنه لو كان مخلوقا لله تعالى لأمكن حصوله عن خبر الجماعة المفروضين بسبب خلق الله تعالى له ، وأمكن أن لا يحصل بسبب عدم خلقه .
فلما كان ذلك واجب الحصول بخبر التواتر علم أنه غير موجود بالاختيار مباشرة ، بل بالتولد عما هو مباشر بالقدرة .
قلنا : أما التناقض فمندفع ، سواء قلنا إن العلم مكتسب للعبد ، أو هو حاصل له ضروريا ، فلا يخرج بذلك عن كونه مخلوقا لله تعالى على ما عرف من أصلنا
>[2] .
قولهم : لو كان مخلوقا لله تعالى لأمكن أن يحصل وأن لا يحصل .
قلنا : ذلك ممكن عقلا ، غير أن الله تعالى قد أجرى العادة بخلقه للعلم عند خبر التواتر ، كما أجرى العادة بالشبع عند أكل الخبز ، والري عند شرب الماء ونحوه .