فإن قيل : ما ذكرتموه من الأخبار في إثبات كون
خبر الواحد حجة أخبار آحاد ، وذلك يتوقف على كونها حجة ، وهو دور ممتنع .
[ ص: 67 ] سلمنا عدم الدور ، ولكن لا نسلم أن الصحابة عملوا بها ، بل من الجائز أنهم عملوا بنصوص متواترة أو بها مع ما اقترن بها من المقاييس ، أو قرائن الأحوال ، أو غير ذلك من الأسباب .
سلمنا أنهم عملوا بها لا غير ، لكن كل الصحابة أو بعضهم ، الأول ممنوع ولا سبيل إلى الدلالة عليه ، والثاني مسلم ، لكن لا حجة فيه .
قولكم لم يوجد له نكير ، لا نسلم ذلك ، وبيانه من وجوه : منها رد
أبي بكر خبر
المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر
محمد بن مسلمة .
ومنها رد
أبي بكر وعمر خبر
عثمان في إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد
nindex.php?page=showalam&ids=2114الحكم بن أبي العاص .
ومنها رد
عمر خبر
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري في الاستئذان ، وهو قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355186سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثا فلم يؤذن له ، فلينصرف " حتى روى معه
nindex.php?page=showalam&ids=44أبو سعيد الخدري .
ومنها رد
علي رضي الله عنه خبر
أبي سنان الأشجعي في المفوضة ، وأنه كان لا يقبل خبر أحد حتى يحلفه ، سوى
أبي بكر .
ومنها رد
عائشة خبر
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه .
سلمنا عدم الرد والإنكار ظاهرا ، غير أن سكوت الباقين عن الإنكار لا يدل على الموافقة لما سبق في مسائل الإجماع .
سلمنا دلالة ذلك على الموافقة فيما تلقوه
>[1] بالقبول ، وعملوا بموجبه ، أو مطلقا في كل خبر ، الأول مسلم ، وذلك لأن اتفاقهم عليه يدل على صحته قطعا ، نفيا للخطأ عن الإجماع ، والثاني ممنوع .
وعلى هذا فيمتنع الاستدلال بكل خبر لم يقبلوه .
[ ص: 68 ] سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون خبر الواحد حجة ، لكنه معارض بما يدل على أنه ليس بحجة ، وبيانه من جهة المعقول والمنقول ، أما المنقول ، فمن جهة الكتاب والسنة .
أما الكتاب : فقوله تعالى : (
ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، وقوله تعالى : (
وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ، وقوله تعالى : (
إن يتبعون إلا الظن ) ذكر ذلك في معرض الذم ، والعمل بخبر الواحد عمل بغير علم وبالظن ، فكان ممتنعا
>[2] .
وأما السنة ، فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه توقف في خبر
ذي اليدين حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم عن اثنتين ، وهو قوله : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355187أقصرت الصلاة أم نسيت ) حتى أخبر
أبو بكر وعمر ومن كان في الصف بصدقه ، فأتم وسجد للسهو .
وأما المعقول فمن وجوه :
الأول : أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد إذا ظن صدقه في الفروع ، لجاز ذلك في الرسالة والأصول ، وهو ممتنع
>[3] .
الثاني : أن الأصل براءة الذمة من الحقوق والعبادات وتحمل المشاق ، وهو مقطوع به ، فلا تجوز مخالفته بخبر الواحد مع كونه مظنونا .
الثالث : أن العمل بخبر الواحد يفضي إلى ترك العمل بخبر الواحد ؛ لأنه ما من خبر إلا ويجوز أن يكون معه خبر آخر مقابل له .
الرابع : أن قبول خبر الواحد تقليد لذلك الواحد ، فلا يجوز للمجتهد ذلك ، كما لا يجوز تقليده لمجتهد آخر .
والجواب عن السؤال الأول أن ما ذكرناه من الأخبار ، وإن كانت آحادها آحادا ، فهي متواترة من جهة الجملة ، كالأخبار الواردة بسخاء
حاتم وشجاعة
عنترة .
وعن الثاني : أنهم لو عملوا بغير الأخبار المروية ، لكانت العادة تحيل تواطؤهم على عدم نقله ، ولا سيما في موضع الإشكال وظهور استنادهم في العمل إلى ما ظهر
[ ص: 69 ] من الأخبار .
كيف والمنقول عنهم خلاف ذلك حيث قال
عمر : ( لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا ، وقول
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355188حتى روى لنا nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ، فانتهينا ) وكذلك ما ظهر منهم من رجوعهم إلى خبر
عائشة في التقاء الختانين إلى غير ذلك ، وجدهم في طلب الأخبار والسؤال عنها عند وقوع الوقائع دليل العمل بها .
وعن الثالث : أن عمل بعض الصحابة ، بل الأكثر من المجتهدين منهم بأخبار الآحاد مع سكوت الباقين عن النكير دليل الإجماع على ذلك ، كما سبق تقريره في مسائل الإجماع .
وما رووه
>[4] من الأخبار أو توقفوا فيه إنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض أو فوات شرط ، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها ، مع كونهم متفقين على العمل بها .
ولهذا أجمعنا على أن ظواهر الكتاب والسنة حجة ، وإن جاز تركها والتوقف فيها لأمور خارجة عنها .
وعن الرابع : أن اتفاقهم على العمل بخبر الواحد إنما يوجب العلم بصدقه ، أن لو لم يكونوا متعبدين باتباع الظن ، وليس كذلك ، بدليل تعبدهم باتباع ظواهر الكتاب والسنة المتواترة ، والعمل بالقياس على ما يأتي .
وإذا كان اتباعهم لخبر الواحد ، لكونه ظنيا مضبوطا بالعدالة ، كان خبر الواحد من تلك الجهة حجة معمولا بها ؛ ضرورة بالاتفاق عليه من تلك الجهة ، وذلك يعم خبر كل عدل .
وأما المعارضة بالآيات فجوابها ما سبق في بيان جواز التعبد بخبر الواحد عقلا .
وعن السنة ، أنه عليه السلام إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهمه غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير .
ومع ظهور أمارة الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه
>[5] فحيث وافقه الباقون على ذلك ، ارتفع حكم الأمارة الدالة على وهم
ذي اليدين ، وعمل بموجب خبره .
كيف وإن
[ ص: 70 ] عمل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر
أبي بكر وعمر وغيرهما ، مع خبر
ذي اليدين عمل بخبر لم ينته إلى حد التواتر ، وهو موضع النزاع ، وفي تسليمه تسليم المطلوب .
وعن المعارضة الأولى من المعقول أنها منتقضة بخبر الواحد في الفتوى والشهادة .
كيف والفرق حاصل . وذلك أن المشترط في إثبات الرسالة والأصول الدليل القطعي ، فلم يكن الدليل الظني معتبرا فيها ، بخلاف الفروع
>[6] .
وعن الثانية من وجهين :
الأول : أن براءة الذمة غير مقطوع بها بعد الوجود والتكليف في نفس الأمر . بل الشغل محتمل وإن لم يظهر لنا سبب الشغل ، فمخالفة براءة الذمة بخبر الواحد لا يكون رفع مقطوع بمظنون .
الثاني : أنه منتقض بالشهادة والفتوى .
وعن الثالث : أن تجويز وجود خبر معارض للخبر الذي ظهر لا يمنع من الاحتجاج به ، وإلا لما ساغ التمسك بدليل من ظواهر الكتاب والسنة المتواترة ؛ لأنه ما من واحد منها إلا ويجوز ورود ناسخ له أو مخصص له ، بل ولما جاز التمسك بدليل مستنبط معارض له
>[7] ، ولما ساغ أيضا للقاضي الحكم بشهادة الشاهدين ، ولا للعامي الأخذ بفتوى المجتهد له ، لجواز وجود ما يعارضه ، وذلك خلاف الإجماع .
وعن الرابع : أنه إنما لم يجز تقليد العالم للعالم ، لاستوائهما في درجة الاجتهاد ، وليس تقليد أحدهما للآخر أولى من العكس ، ولا كذلك المجتهد مع الراوي ، فإنهما لم يستويا في معرفة ما استبد بمعرفته الراوي من الخبر فلذلك وجب عليه تقليده فيما رواه .
وبالجملة فالاحتجاج بمسلك الإجماع في هذه المسألة غير خارج عن مسالك الظنون وإن كان التمسك به أقرب مما سبق من المسالك .
[ ص: 71 ] وعلى هذا فمن اعتقد كون المسألة قطعية ، فقد تعذر عليه النفي والإثبات لعدم مساعدة الدليل القاطع على ذلك .
ومن اعتقد كونها ظنية فليتمسك بما شاء من المسالك المتقدمة ، ( والله أعلم بالصواب )
>[8] .