المسألة الثالثة
ذهب الأكثرون إلى امتناع
الحكم بالحكمة المجردة عن الضابط >[1] وجوزه الأقلون ، ومنهم من فصل بين الحكمة الظاهرة المنضبة بنفسها والحكمة الخفية المضطربة ، فجوز التعليل بالأولى دون الثانية وهذا هو المختار .
[ ص: 203 ] أما إذا كانت
الحكمة ظاهرة منضبطة غير مضطربة فلأنا أجمعنا على أن الحكم إذا اقترن بوصف ظاهر منضبط مشتمل على حكمة غير منضبطة بنفسها أنه يصح التعليل به وإن لم يكن هو المقصود من شرع الحكم ، بل ما اشتمل عليه من الحكمة الخفية ، فإذا كانت الحكمة وهي المقصود من شرع الحكم مساوية للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها .
وأما إذا كانت
الحكمة خفية مضطربة غير منضبطة فيمتنع التعليل بها لثلاثة أوجه :
الأول : أنها إذا كانت خفية مضطربة مختلفة باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال فلا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم منها والوقوف عليه إلا بعسر وحرج ، ودأب الشارع فيما هذا شأنه على ما ألفناه منه إنما هو رد الناس فيه إلى المظان الظاهرة الجلية دفعا للعسر عن الناس والتخبط في الأحكام ، ولهذا فإنا نعلم أن الشارع إنما قضى بالترخص في السفر دفعا للمشقة المضبوطة بالسفر الطويل إلى مقصد معين ، ولم يعلقها بنفس المشقة لما كانت مما يضطرب ويختلف ، ولهذا فإنه لم يرخص للحمال المشقوق عليه في الحضر وإن ظن أن مشقته تزيد على مشقة المسافر في كل يوم فرسخا ، وإن كان في غاية الرفاهية والدعة ؛ لما كان ذلك مما يختلف ويضطرب .
الثاني : أن
الإجماع منعقد على صحة تعليل الأحكام بالأوصاف الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم ، كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان لحكمة الزجر أو الجبر ، وتعليل صحة البيع بالتصرف الصادر من الأهل في المحل لحكمة الانتفاع ، وتعليل تحريم شرب الخمر وإيجاب الحد به لحكمة دفع المفسدة الناشئة منه ونحوه ، ولو كان التعليل بالحكمة الخفية مما يصح لم احتيج إلى التعليل بضوابط هذه الحكم والنظر إليها لعدم الحاجة إليها ، ولما فيه من زيادة الحرج بالبحث عن الحكمة وعن ضابطها مع الاستغناء بأحدهما .
الثالث : أن
التعليل بالحكمة المجردة إذا كانت خفية مضطربة مما يفضي إلى العسر والحرج في حق المكلف بالبحث عنها والاطلاع عليها ، والحرج منفي بقوله تعالى : (
وما جعل عليكم في الدين من حرج ) غير أنا خالفناه في التعليل بالوصف
[ ص: 204 ] الظاهر المنضبط ؛ لكون المشقة فيه أدنى ، فبقينا عاملين بعموم النص فيما عداه .
فإن قيل : ما ذكرتموه في جواز
التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة فهو فرع إمكان ذلك ، وهو غير مسلم في الحكمة فإنها راجعة إلى الحاجات إلى المصالح ودفع المفاسد ، والحاجات مما تخفى وتزيد وتنقص فلا تكون ظاهرة ولا منضبطة ، وإن سلمنا إمكان ذلك نادرا .
غير أنه يلزم من التوسل إلى معرفتها في آحاد الصور لتعيين القليل منها نوع عسر وحرج لا يلزم مثله في التوسل إلى معرفة الضوابط الجلية والمظان الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم في الغالب ، وذلك مدفوع بقوله تعالى : (
وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ، وما ذكرتموه في امتناع التعليل بالحكمة الخفية .
أما الوجه الأول : فالبحث عن الحكمة الخفية وإن كان فيه نوع حرج ومشقة غير أنه لا بد منه عند التعليل بالوصف الظاهر المشتمل عليها ضرورة أنها علة لكون الوصف علة ، ولولا اشتمال الوصف عليها لما كان علة للحكم ، وإذا لم يكن بد من معرفتها في جعل الوصف علة للحكم وقد جعلت علة للعلة أمكن أن تجعل علة للحكم من غير حاجة إلى ضابطها ، وحيث لم نقض بالترخص في حق الحمال في الحضر دفعا للمشقة عنه ، فغايته امتناع تعليل الرخصة بمطلق المشقة بل بالمشقة الخاصة بالسفر ، ولا يلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة مطلقا .
وأما الوجه الثاني : فغاية ما فيه جواز
التعليل بالضابط المشتمل على الحكمة ، وليس فيه ما يدل على امتناع التعليل بالحكمة ، قولكم : إنه لا حاجة إليه ، لا نسلم ذلك ، فإن الاطلاع عليه أسهل من الاطلاع على الحكمة .
وأما الوجه الثالث : فهو أن الحرج اللازم عن البحث عن الحكمة الخفية ، وإن كان شاقا غير أنه لا يزيد على البحث عنها عند التعليل بضابطها ، بل المشقة في تعرفها مع تعرف ضابطها أشق من تعرفها دون ضابطها ، وقد أجمعنا على مخالفة النص المذكور عند التعليل بالضابط ، وكانت مخالفته عند التعليل بالحكمة لا غير - أقل مشقة وحرجا ، فكان أولى بالمخالفة .
[ ص: 205 ] والجواب عن الاعتراض الأول : أن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها في بعض الصور لا فيما لم يكن .
قولهم : " إن الاطلاع عليها والبحث عنها أشق من البحث عن الضابط " ليس كذلك ، فإنها إذا كانت ظاهرة منضبطة كالوصف فلا تفاوت .
وعن الاعتراض الأول على الوجه الثاني
>[2] : أن البحث عن الحكمة عند تجردها عن الضابط لا بد فيه من معرفة كميتها وخصوصيتها حتى نأمن من الاختلاف بين الأصل والفرع فيها ، وذلك غير ممكن في الحكمة الخفية المضطربة ، ولا يكفي فيه مجرد معرفة احتمالها بخلاف ما إذا كانت مضبوطة بضابط نكتفي بمعرفة الضابط ، ومعرفة أصل احتمال الحكمة لا غير ، ويدل على ذلك ما ذكرناه من الاستشهاد ، وما ذكروه عليه فهو اعتراف بامتناع التعليل بمجرد الحكمة ، وهو المطلوب .
وعن الاعتراض على الوجه الثاني : أنه لو أمكن التعليل بالحكمة لما احتيج إلى التعليل بالضابط .
قولهم : إن الوقف عليه أسهل من الوقوف على الحكمة بمجردها .
قلنا : فيلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة لما فيه من تأخير إثبات الحكم الشرعي إلى زمان إمكان الاطلاع على الحكمة مع إمكان إثباته بالضابط في أقرب زمان ، وذلك ممتنع .
وعن الاعتراض على الوجه الثالث : أنا لا نسلم التساوي في الحرج والمشقة في البحث عن الحكمة مع ضابطها ومع خلوها عن الضابط ، وذلك لأنا نفتقر في البحث عنها عند خلوها عن الضابط إلى معرفة خصوصيتها وكميتها حتى نأمن من التفاوت فيها بين الأصل والفرع كما سبق ، ولا كذلك في البحث عنها مع ضابطها ، فإنا لا نفتقر في البحث عنها إلى أكثر من معرفة أصل احتمالها ، ولا يخفى أن الحرج في تعرفها على جهة التفصيل أتم من تعرفها لا بجهة التفصيل .