[ ص: 210 ] المسألة الخامسة
اختلفوا في جواز
الحكم الشرعي بالحكم الشرعي فجوزه قوم ومنع منه آخرون ، وشرطوا في العلة ألا تكون حكما شرعيا .
ونحن نشير إلى مأخذ الفريقين وننبه على ما فيه ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار .
فأما من قال بأن الحكم يجوز أن يكون علة للحكم فقد احتجوا عليه بأن أحد الحكمين قد يكون دائرا مع الحكم الآخر وجودا وعدما ، والدوران دليل كون المدار عليه الدائر
>[1] وسنبين أن الدوران لا يدل على التعليل فيما بعد .
وأما القائلون بامتناع التعليل بالحكم فقد احتجوا بأن الحكم إذا كان علة لحكم آخر ، فإما أن يكون متقدما عليه أو متأخرا عنه أو مقارنا له .
لا جائز أن يقال بالأول وإلا لزم منه وجود العلة مع تخلف حكمها عنها ، وهو نقض للعلة .
ولا جائز أن يقال بالثاني ; لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم .
وإن كان الثالث ، فليس جعل أحدهما علة للآخر أولى من العكس .
وأيضا فإنه يحتمل أن لا يكون لحكم الأصل علة ويحتمل أن يكون ، وإذا كان معللا احتمل ألا يكون الحكم به هو العلة واحتمل أن يكون ، وعلى هذا فلا يكون علة على تقديرين وإنما يكون علة على تقدير واحد ، ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد .
وأيضا فإنه لو كان الحكم علة للحكم فإما أن يكون علة بمعنى الأمارة المعرفة أو بمعنى الباعث .
لا جائز أن يقال بالأول لما سبق
>[2] ، ولا جائز أن يقال بالثاني ، لأن القول بكون الحكم داعيا وباعثا على الحكم محال خارق للإجماع .
[ ص: 211 ] ولقائل أن يقول : أما الحجة الأولى فلا نسلم امتناع التقدم .
قولهم : يلزم منه نقض العلة ليس كذلك ، فإن الحكم لم يكن علة لنفسه وذاته بل إنما يصير علة باعتبار الشرع له بقران الحكم الآخر به ، وذلك كما في تعليل تحريم شرب الخمر بالشدة المطربة فإن الشدة المطربة وإن كانت متقدمة على التحريم فلا يقال إنها علة قبل اعتبارها من الشرع بقران التحريم بها ، فلا تكون منتقضة بتخلف التحريم عنها قبل ورود الشرع ، وإن سلمنا امتناع التقدم فما المانع أن يكون مقارنا ؟
قولهم : ليس جعل أحد المقترنين علة للآخر أولى ليس كذلك ، فإن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا كان أحد الحكمين مناسبا للحكم الآخر من غير عكس ، وإلا فمع قطع النظر عن جهة البعث في أحد الحكمين فلا يكون علة .
وما ذكروه من الترجيح فهو لازم عليهم في التعليل بالأوصاف الحقيقية ، وما هو جواب ثم فهو الجواب فيما نحن فيه .
وأما الحجة الثانية ، فالمختار من قسميها أنه علة بمعنى الباعث .
قولهم : إنه ممتنع خارق للإجماع - دعوى مجردة لا دليل عليها .
وعند هذا فنقول : المختار أنه يجوز أن يكون الحكم علة للحكم بمعنى الأمارة المعرفة ، لكن لا في أصل القياس بل في غيره ، فقد حرمت ، كذا فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع : مهما رأيتم أنني حرمت كذا فقد حرمت كذا ، ومهما أبحت كذا ، كما لو قال : مهما زالت الشمس فصلوا ، ومهما طلع هلال رمضان فصوموا .
وأما في أصل القياس فقد بينا أنه لا يجوز أن تكون العلة فيه بمعنى الأمارة المعرفة بل بمعنى الباعث ، فإذا كان الحكم علة لحكم أصل القياس فلا بد وأن يكون باعثا عليه .
وعلى هذا فحكم الأصل إما أن يكون حكما تكليفيا أو بخطاب الوضع والأخبار .
[ ص: 212 ] فإن كان ثابتا بخطاب التكليف امتنع أن يكون الحكم الشرعي علة له ; لأنه غير مقدور للمكلف لا في إيجاده ولا في إعدامه ، فلا يصلح أن يكون علة لما ذكرناه في امتناع التعليل بالوصف العدمي ، وبما ذكرناه أيضا يمتنع تعليله بالوصف العرفي والتقديري ، والوصف الوجودي الذي لا قدرة للمكلف على تحصله ، كالشدة المطربة والطعم والنقدية والصغر ونحوه .
وأما إن كان حكم الأصل ثابتا بخطاب الوضع والإخبار فلا بد وأن يكون الحكم المعلل به باعثا على حكم الأصل ، إما لدفع مفسدة لزمت من شرع الحكم المعلل به ، وإما لتحصيل مصلحة تلزم منه ، فإن كان الأول فيمتنع أن يكون الحكم علة ; لأن المفسدة اللازمة من الحكم المعلل به كانت مطلوبة الانتفاء بشرع حكم الأصل ; لما شرع الحكم المعلل به لما يلزم من شرعه من وجوه مفسدة مطلوبة الانتفاء للشارع ، وإن كان الثاني فلا يمتنع الحكم بالحكم فإنه لا يمتنع أن يكون ترتيب أحد الحكمين على الآخر يستلزم حصول مصلحة لا يستقل بها أحدهما ، فقد ينحل من هذه الجملة أن إطلاق القول بامتناع التعليل بالحكم الشرعي وجوازه ممتنع ، بل لا بد من النظر إلى ما ذكرناه لما ذكرناه من التفصيل .