المسألة الثالثة
مذهب
الأشاعرة وأهل الحق : أنه لا حكم
لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع .
وأما
المعتزلة فإنهم قسموا الأفعال الخارجة عن الأفعال الاضطرارية إلى ما حسنه العقل ، وإلى ما قبحه ، وإلى ما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح . فما حسنه العقل : إن استوى فعله وتركه في النفع والضرر سموه مباحا ، وإن ترجح فعله على تركه فإن لحق الذم بتركه سموه واجبا ، وسواء كان مقصودا لنفسه كالإيمان أو لغيره كالنظر المفضي إلى معرفة الله تعالى ، وإن لم يلحق الذم بتركه سموه مندوبا . وما قبحه العقل : فإن التحق الذم بفعله سموه
[ ص: 92 ] حراما وإلا فمكروه ، وما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح فقد اختلفوا فيه : فمنهم من حظره ، ومنهم من أباحه ، ومنهم من وقف عن الأمرين .
احتجت
الأشاعرة بالمنقول والمعقول :
أما المنقول فقول الله تعالى : (
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) .
ووجه الدلالة منه أنه أمن من العذاب قبل بعثة الرسل ، وذلك يستلزم انتفاء الوجوب والحرمة قبل البعثة ، وإلا لما أمن من العذاب بتقدير ترك الواجب وفعل المحرم ; إذ هو لازم لهما .
وأيضا قوله تعالى : (
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ومفهومه يدل على الاحتجاج
>[1] قبل البعثة ، ويلزم من ذلك نفي الموجب والمحرم .
وأما من جهة المعقول : فلأن ثبوت الحكم إما بالشرع أو بالعقل بالإجماع ، ولا شرع قبل ورود الشرع ، والعقل غير موجب ولا محرم لما سبق في المسألة المتقدمة ، فلا حكم .
>[2] فإن قيل : أما الآية الأولى فلا حجة فيها ، فإنه ليس العذاب من لوازم ترك الواجب وفعل المحرم ، ولهذا يجوز انفكاكه عنهما بناء على عفو أو شفاعة ، فنفيه قبل ورود الشرع لا يلزم منه نفيهما .
سلمنا أنه لازم لهما لكن بعد ورود الشرع لا قبله ، وعلى هذا فلا يلزم نفيهما من نفيه قبل ورود الشرع .
سلمنا أنه لازم لهما ، لكنه لازم للواجب والمحرم شرعا أو عقلا ، الأول مسلم والثاني ممنوع ، وعلى هذا فاللازم من نفيه قبل الشرع نفي الواجب والمحرم شرعا لا عقلا .
سلمنا ذلك ، ولكن ليس في الآية ما يدل على نفي الإباحة والوقف لعدم ملازمة العذاب لشيء من ذلك إجماعا .
[ ص: 93 ] وأما الآية الأخرى ، وإن سلمنا كون المفهوم حجة فالاعتراض على الآية الأولى بعينه وارد هاهنا ، وأما ما ذكرتموه من المعقول فقد سبق ما فيه . كيف وأن ما ذكرتموه من الدلالة على نفي الحكم حكم بنفي الحكم فكان متناقضا .
والجواب عن السؤال الأول : أن وقوع العذاب بالفعل وإن لم يكن لازما من ترك الواجب وفعل المحرم فلازمه عدم الأمن من ذلك لعدم تحقق الواجب والمحرم دونه . وهذا اللازم منتف قبل ورود الشرع على ما دلت عليه الآية فلا ملزوم ، وبه يندفع ما ذكروه من السؤال الثاني والثالث .
والتمسك بالآية إنما هو في نفي الوجوب والحرمة قبل لا غير ، ونفي ما سوى ذلك فإنما يستفاد من دليل آخر على ما سنبينه ، وبه اندفع السؤال الرابع .
>[3] وما ذكروه على الدليل العقلي فقد سبق أيضا جوابه ، ونفي الحكم وإن كان حكما غير أن المنفي ليس هو الحكم مطلقا ليلزم التناقض ، بل نفي ما أثبتوه من الأحكام المذكورة فلا تناقض .
وأما القائلون بالإباحة إن فسروها بنفي الحرج عن الفعل والترك ، فلا نزاع في هذا المعنى وإنما النزاع في صحة إطلاق لفظ الإباحة بإزائه ، ولهذا فإنه يمتنع إطلاق لفظ الإباحة على أفعال الله تعالى مع تحقق ذلك المعنى فيها ، وإن فسروها بتخيير الفاعل بين الفعل والترك فإما أن يكون ذلك التخيير للفاعل من نفسه وإما من غيره ، فإن كان الأول فيلزم منه تسمية أفعال الله مباحة لتحقق ذلك في حقه ، وهو ممتنع بالإجماع . . وإن كان الثاني فالمخير إما الشرع وإما العقل بالإجماع ، ولا شرع قبل ورود الشرع ، وتخيير العقل عندهم إنما يكون فيما استوى فعله وتركه من الأفعال الحسنة عقلا ، أو فيما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح ، وهو فرع الحسن والقبح العقلي ، وقد أبطلناه
>[4] ، وإن فسروه بأمر آخر فلا بد من تصويره .
[ ص: 94 ] فإن قيل : المباح هو المأذون في فعله ، وقد ورد دليل الإذن من الله تعالى قبل ورود الشرع ، وإن لم ترد صورة الإذن ، وبيانه من وجهين :
الأول : هو أن الله تعالى خلق الطعوم في المأكولات والذوق فينا ، وأقدرنا عليها ، وعرفنا بالأدلة العقلية أنها نافعة لنا غير مضرة ، ولا ضرر عليه في الانتفاع بها ، وهو دليل الإذن منه لنا في ذلك ، وصار هذا كما لو قدم إنسان طعاما بين يدي إنسان على هذه الصفات فإن العقلاء يقضون بكونه قد أذن له فيه .
الثاني : أن خلقه للطعوم في الأجسام مع إمكان ألا يخلقها لا بد له من فائدة نفيا للعبث عنه ، وليست تلك الفائدة عائدة إلى الله تعالى لتعاليه عنها ، فلا بد من عودها إلى العبد ، وليست هي الإضرار ولا ما هو خارج عن الإضرار والانتفاع ; إذ هو خلاف الإجماع فكانت فائدتها الانتفاع بها وهو دليل الإذن في إدراكها ، وسواء كان الانتفاع بها بجهة الالتذاذ بها وتقويم البنية ، أو بجهة تجنبها لنيل الثواب ، أو الاستدلال بها على معرفة الله تعالى لتوقف ذلك كله على إدراكها واحتمال وجود مفسدة فيه مع عدم الاطلاع عليها لا يكون مانعا من الإذن والحكم بالإباحة ، بدليل الاستضاءة بسراج الغير والاستظلال بحائطه .
وقلنا : أما الوجه الأول فحاصله يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد ، وقد أبطلناه .
وأما الثاني : فمبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعاله تعالى ، وهو ممنوع على ما عرف من أصلنا
>[5] ، ثم إذا كان مأذونا فيه من جهة الشارع فإباحته شرعية لا عقلية .
>[6] وأما القائلون بالوقف ، إن عنوا به توقف الحكم بهذه الأشياء على ورود السمع فحق ، وإن عنوا به الإحجام عن الحكم بالوجوب أو الحظر أو الإباحة لتعارض أدلتها ففاسد لما سبق .