القسم الثالث : أن
يذكر الشارع مع الحكم وصفا لو لم يقدر التعليل به لما كان لذكره فائدة ، ومنصب الشارع مما ينزه عنه ، وذلك لأن الوصف المذكور إما أن يكون مذكورا مع الحكم في كلام الله تعالى أو كلام رسوله .
فإن كان في كلام الله تعالى وقدرنا أنه لو لم يقدر التعليل به فذكره لا يكون مفيدا ، ولا يخفى أن ذلك غير جائز في كلام الله تعالى إجماعا نفيا لما لا يليق بكلامه عنه .
وإن كان ذلك في كلام رسوله فلا يخفى أن الأصل إنما هو انتفاء العبث عن العاقل في فعله وكلامه ونسبة ما لا فائدة فيه إليه ; لكونه عارفا بوجوه المصالح والمفاسد ، فلا يقدم في الغالب على ما لا فائدة فيه ، وإذا كان ذلك هو الظاهر
[ ص: 257 ] من آحاد العقلاء فمن هو أهل للرسالة عن الله تعالى ونزول الوحي عليه وتشريع الأحكام أولى .
وإذا عرف ذلك فيجب اعتقاد كون الوصف المذكور في كلامه مع الحكم علة له .
وهذا القسم على أصناف ، وذلك لأن الشارع إما أن يذكر ذلك ابتداء من غير سؤال أو بعد السؤال ، فإن كان من غير سؤال فهو ( الصنف الأول ) وذلك كما في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ليلة الجن ، حيث توضأ - عليه السلام - بماء كان قد نبذ فيه تميرات لاجتناب ملوحته فقال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355365ثمرة طيبة وماء طهور )
>[1] فإنه يدل على جواز الوضوء به ، وإلا كان ذكره ضائعا ; لكون ما ذكر ظاهر غير محتاج إلى بيان .
وإن كان مع السؤال فلا يخلو إما أن يذكر ذلك الوصف في محل السؤال أو في غيره ، فإن كان في محل السؤال فهو ( الصنف الثاني ) وذلك كما روي عنه - عليه السلام - أنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355366سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقالوا : نعم ، فقال : فلا إذا "
>[2] فهذا وإن فهم منه أن النقصان علة امتناع بيع الرطب بالتمر من ترتيبه الحكم على الوصف بالفاء واقترانه بحرف ( إذا ) وهي من صيغ التعليل غير أنا لو قدرنا انتفاء هذين لبقي فهم التعليل بالنقصان بحاله نظرا إلى أنه لو لم يقدر التعليل به لكان ذكره والاستفسار عنه غير مفيد .
وإن كان في غير محل السؤال ، وهو أن يعدل في بيان الحكم إلى ذكر نظير لمحل السؤال ، فهو ( الصنف الثالث ) ، وذلك كما روي عنه - عليه السلام - أنه لما
[ ص: 258 ] سألته الجارية الخثعمية وقالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355367يا رسول الله إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج فإن حججت عنه أينفعه ذلك ؟ فقال - عليه السلام - : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك ؟ فقالت : نعم ، قال : فدين الله أحق بالقضاء .
>[3] فالخثعمية إنما سألت عن الحج والنبي - عليه السلام - ذكر دين الآدمي والحج من حيث هو دين نظير لدين الآدمي ، فذكره لنظير المسئول عنه مع ترتيب الحكم عليه يدل على التعليل به وإلا كان ذكره عبثا .
ويلزم من كون نظير الواقعة علة للحكم المرتب عليها أن يكون المسئول عنه أيضا علة لمثل ذلك الحكم ضرورة المماثلة .
وما مثل هذا يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس ، فكأنه نبه على الأصل وعلى علة حكمه وعلى صحة إلحاق المسئول عنه بواسطة العلة المومي إليها .
وليس من هذا القبيل ما مثل به بعض الأصوليين ، وذلك كما روي عن
عمر أنه سأل النبي - عليه السلام - عن قبلة الصائم هل تفسد الصوم ؟ فقال - عليه السلام - : أرأيت لو تمضمضت أكان ذلك يفسد الصوم ؟ فقال : لا . وذلك لأن النبي - عليه السلام - إنما ذكر ذلك بطريق النقض لما توهمه
عمر من كون القبلة مفسدة للصوم لكونها مقدمة للوقاع المفسد للصوم ، فنقض النبي - عليه السلام - ذلك بالمضمضة فإنها مقدمة للشرب المفسد للصوم وليست مفسدة للصوم .
أما أن يكون ذلك تنبيها على عدم الإفساد بكون المضمضة مقدمة للفساد فلا .
وذلك لأن كون القبلة والمضمضة مقدمة لإفساد الصوم ليس فيه ما يتخيل أن يكون مانعا من الإفطار ، بل غايته أن لا يكون مفطرا ، فكان الأشبه بما ذكره النبي - عليه السلام - أن يكون نقضا لا تعليلا .
وأيضا فإن الأصل أن يكون الجواب مطابقا للسؤال لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه
[ ص: 259 ] أما الزيادة فلعدم الغرض بها .
وأما النقصان فلما فيه من الإخلال بمقصود السائل .
وعمر إنما سأل عن كون القبلة مفسدة للصوم أم لا ؟ فالجواب المطابق إنما يكون بما يدل على الإفساد أو عدمه ، وكون القبلة علة لنفي الفساد غير مسئول عنه ، فلا يكون اللفظ الدال على ذلك جوابا مطابقا للسؤال ، بخلاف النقض فإنه يتحقق به أن القبلة غير مفسدة ، فكان جوابا مطابقا للسؤال .